الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبتون وراء العلم والإرادة لا حكمة، ولا رحمة، ولا لطفا، ولا محبة، ولا رضى، ولا فرحا، ولا غضبا، ولا مقتا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلا-: معلوم أن الإرادة المحضة خاصتها التخصيص [ ص: 52 ] والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر، والنعيم دون العذاب، وجعل هذا محبوبا، وهذا مودودا مرضيا، وهذا ممقوتا مبغضا مسخوطا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة متعلقة بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمها في سائر أنواع الحوادث حكم واحد، فلم سميت هنا محبة وهنا بغضا؟ وهنا رضى وهنا غضبا؟ وهنا مودة وهنا مقتا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح والمريض والآمن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس: هذا محبوب مرضي مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعما بما هو فيه، والآخر معذبا بما هو فيه.

فإذا كان قد أثاب قوما بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قوما بعملهم السيئ في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين الجائع والشبعان، وبأنه بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبا ومكروها، ولم يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبا ومكروها، حيث لا يتعلق به أمر شرعي، فتعلق الحب والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعي، دون ما لم يتعلق به ذلك- مع [ ص: 53 ] أن الإرادة عامة التعلق بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو باب الآخر.

وهذا بين معقول ببرهان لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات، كما كان أصل التخصيص دليلا على ثبوت الإرادة.

ويقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعطلتم صفات الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع.

ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة إليه، نفعهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسا على الخلق، فالخلق إنما يحسن منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية