الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإنه لم يتقدم اسم يصلح أن يعود الضمير إليه إلا "ما أمسكن "، وأما الأكل فلم يتقدم اسمه، وإنما تقدم قوله: فكلوا مما أمسكن . وقد يعود الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، [ ص: 382 ] لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعود الضمير إليه إلا ما دل عليه الفعل من الاسم لعدم اللبس، وأما إذا كان الاسم هو القريب إلى الضمير فهذا يترجح عوده إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلا؟

وأيضا فالقرآن حيث أمر فيه بذكر اسم الله على ما ذكي فإنما هو حين التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذم من ترك ذكر اسمه عليها حينئذ، كما قال: وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ، فالذي ذم به المشركين على تركه أمر المؤمنين بفعله. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث عدي قررها وطابقها.

الثاني: أنه قال في بعض طرقه: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه "، فأمر بذلك، وأمره للوجوب.

الثالث: أنه قال أيضا: "إذا رميت بقوسك فاذكر اسم الله ".

الرابع: أنه قال: "إن أدركته ولم يقتل فاذبحه واذكر اسم الله ".

الخامس: أنه قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ". فشرط في الأكل أن يذكر اسم الله، كما اشترط أن يكون الكلب معلما، وأن يمسك عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن.

السادس: أنه قال: قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمي، [ ص: 383 ] فأجد معه على الصيد كلبا آخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ.

قال: "لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر".


فنهاه عن أكل ما شك في تذكيته، وعلل ذلك بأنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر، فجعل المانع من حل صيد الكلب الآخر ترك التسمية، كما جعل فعل التسمية علة لحل صيد كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جعله وجود التسمية شرطا في الحل، وعدم التسمية مانعا من الحل، ولم يفرق بين أن يتركها ناسيا أو غير ناس، مع أن حال الاصطياد حال قد يدهش الإنسان ويذهل عن التسمية فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بترك التسمية فأن لا يعذره بذلك في حال الذبح وهو أحضر عقلا أولى وأحرى.

السابع: أنه كرر عليه ذكر التسمية حين إرساله الكلب، وحين إرساله السهم، وعند منعه من أكل ما خالط كلبه كلب لم يسم عليه، وعند ذبحه. وهذا كله يدل على اعتناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسمية على الذكاة بالذبح والسهم والجارح، وأنه لا بد منها في الحل، وأن انتفاءها يوجب انتفاء الحل. وهذا في غاية البيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس عليه إلا البلاغ المبين، وبدون هذا يحصل البيان الذي تقوم به الحجة على الناس.

وأيضا حديث أبي ثعلبة الخشني - وهو في الصحاح والسنن [ ص: 384 ] والمساند أيضا، وعلى حديثه وحديث عدي يدور باب الصيد، وعليهما اعتمد الفقهاء كلهم- قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي، أصيد بكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك؟ فقال: "أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرت أنكم بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل ". وفي لفظ البخاري: "ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ".

فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحل من ذلك؟ فلم يحل له إلا ما ذكر اسم الله عليه في الاصطياد بقوسه وفي الاصطياد بكلبه، ولم يستثن حالة نسيان ولا غيرها، وهذا من أبين الدلالة على أنه لا يحل له إلا ذلك، إذ لو كان يحل ما ترك التسمية عليه خطأ أو عمدا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان الجواب إذن إحلال ذلك كله أو إحلال ما سمي عليه وما نسي التسمية عليه، كما أن المستفتي لمن يحل هذا من الفقهاء يجيبه بجواب يخالف جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة، وهذا دليل على خطأ ذلك الجواب.

وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجب التسمية على الصيد دون الذبيحة في حال الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص [ ص: 385 ] صريحة في اشتراط ذلك، ولم يرد مثل ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية الذبيحة تذكية اختيار، فلم تحتج إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها تذكية ضرورية وقعت رخصة، فلا بد أن تكمل بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق واللبة. وبهذا فرق من اشترطها في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يحصل بفعل الآدمي، بخلاف التذكية بالجارح، فإنها تحصل بفعل الجارح، فكانت أضعف.

لكن ما ذكروه يعارضه أنكم توجبونها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسي بعذر النسيان، والصائد أولى بالعذر من الذابح، لما يحصل له من العذر والدهش الذي يوجب له النسيان.

التالي السابق


الخدمات العلمية