الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثاني: مكانة العدل في السنة النبوية

          سعى الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث النبوية إلى شرح معنى مبادئ العدل المجردة المعلنة في الآيات القرآنية بأمثلة محددة، مستخدما عبارات أخلاقية وفقهية للتمييز بين العادل والظالم من الأفعال، ولوضع القواعد الأساسية التي تبين ما يجب أن يكون عليه ميزان العدل. وبسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج مسائل عملية فإننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث النبوي مواد محددة تشير إلى عناصر العدل وطريقة تحقيقه في الحياة الدنيا. ولذلك فإن مهمة تحديد ما يجب أن يكون عليه تقع على عاتق العلماء، الذين يسعون إلى استخراج عناصره من المصادر المختلفة الموثوقة، كما أسلفنا.

          وفكرة العدل في الحديث النبوي تعني العدالة الإلهية القائمة على أساس من نظام التشريع الديني، تتميز بالأفضلية في نظر الفقهاء المسلمين؛ لأنها تحيط شموليا بالتشريع والأخلاق للإيفاء بكافة مناحي الحياة الإنسانية ولأجل السعادة في الدارين [1] . [ ص: 94 ] فإذا كانت الدنيا معاش الخلق فإن دار الآخـرة تقتضـيها العـدالة أو الحكمة الإلهية، وهي لزوم الحساب والثواب والعقاب. ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ... إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) [2] .

          وفي مقابل ذلك ( يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ) [3] .

          إن مثل هـذه الصور من الحديثين يؤخذ منها أن الإنسان مكلف حر مختار وقد أتيحت له في هـذه الدنيا فرصة ممارسة حريته بأن يختار اتباع طريق الخير أو طريق الشر. ثم هـو سيسأل يوم القيامة ويحاسب على ما اختاره بمحض إرادته، وسيكون الجزاء مناسبا لما كسبـت يـداه. ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ... وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ... ) [4] . فمبدأ الجزاء هـنا يدعم فكرة العدل.

          وإلى جانب ذلك نجد فكرة أساسية أخرى تدعم ما سبق، وهي أن الله منـزه عن العبث والظلم: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... ) [5] . وهذا يفضي بنا إلى القول: بأن الله هـو العدل ولا يصدر عنه إلا العدل. [ ص: 95 ] ( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ) [6] .

          ويعتبر هـذا الحديث تهديدا كبيرا لكل مسلم تسول له نفسه الاعتداء على أي حق من حقوق أهل الذمة أو المعاهدين، وعلى الحكومة الإسلامية بموجب ذلك، الضرب على أيدي المعتدين بغض النظر عمن يكونون.

          والعدل أيضا يتضمن المساواة، بمعنى أن البشرية جمعاء من نسل آدم عليه السلام، وآدم من تراب، وبالتالي فإن جميع الناس متساوون أمام القانون وبنفس الدرجة من الأهمية، فهم جميعا مؤهلون لنيل الحقوق المقررة للإنسان من الأساسيات أو من التكميليات التي أكدها، كما سبقت الإشارة، التشريع الإسلامي، بصرف النظر عن أجناسهم أو أديانهم أو قومياتهم [7] .

          ونسوق المثال التالي كنموذج على ذلك، وهو ( قول صلى الله عليه وسلم : «أيها الناس: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) [8] .

          وتجب الإشارة هـنا إلى أن مبدأ العدالة قد حظي دائما بأهمية كبرى في جميع الأنظمة القانونية المطبقة في الدول الإسلامية، بالرغم من أنه بسبب [ ص: 96 ] بعض المشاكل السياسية لم يطبق بدقته كما ينبغي في بعض هـذه الدول، ولكن من الناحية النظرية وكقاعدة أخلاقية عامة فإن مبدأ العدالة ينال الاهتمام البالغ، لأنه مسألة تتعلق بالدين والعقيدة بالنسبة للمسلمين.

          إن مفهوم العدالة في الإسلام يعني، كما أسلفنا، تحقيق التوازن بين المنافع والمضار الناتجة عن كل عمل مشروع في الأصل، تحقيقا للمصلحة الراجحة.. وهذا من أصول العدل في الإسلام.

          وعلى هـذا، فما غلب نفعه شرع، وما غلب ضرره منع، ولو كان في الأصل مشـروعا. وذلك بالنظر إلى مآله، لا بالنظر إلى أصله من حيث هـو، لأن الحقائق لا تتبدل، وإنما يتبدل الحكم تبعا لتبدل المآلات بفعل العوارض الطارئة [9] .

          وإذا تهاون الأفراد في رعاية المصلحة العامة أو جهة التعاون، فإن على الدولة أن تلزم الأفراد بذلك بتشريعاتها الملزمة، وقد صور الرسول صلى الله عليه وسلم هـذا المعنى في حديث السفينة أروع تصوير، فقال : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركـوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) [10] . [ ص: 97 ] وقد حاول الأستاذ فتحي الدريني [11] ، أن يستنتج من هـذا الحديث قواعد تشريعية أصولية تتصل بالنظرية العامة للشريعة الإسلامية، وما قامت عليه من مفهوم للحق والحرية والعدل على حد السواء، نوجزها فيما يلي:

          أولا: إن الفرد في الحديث يتصرف في حقه ( لقوله: «لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ) فهو إذن ليس متجـاوزا ولا معـتديا على حق غيـره، وإنما يتصرف في حدود نصيبه الخاص وفق منطوق الحديث.

          ثانيا: حسن نيته في هـذا التصرف واضح، لقوله: «ولم نؤذ من فوقنا»، وهذا صريح في انتفاء قصد الإضرار لديه، غير أن حسن النية هـنا عن غفلة أو قصور إدراك للعواقب - فيما يبدو- مما يستوجب الإشراف ثم المنع.

          ثالثا: اتجه قصده إلى «التوفيق والتوازن» بين مصلحته الخاصة في الاستقاء وبين مصلحة من هـم في أعلى السفينة - في الوقت نفسه - بعدم إيذائهم بالمرور من فوقهم، بل بنية دفع الضرر عنهم، ولكنه أخطأ التقدير لعدم تبصره بمآل تصرفه في نصيبه وحقه على هـذا الوجه.

          رابعا: التصرف الساذج - دون وعي وتبصر في العواقب وفي حدود الحق - قد يفضي إلى ضرر عام وخطير أيضا، إذ قد يتعلق بالمصير، وهذا ممنوع شرعا، ولو كان التصرف في الحق - في الأصل - جائزا ومشروعا. بعبارة أخرى: منع الجائز لئلا يتوسل به إلى الممنوع. [ ص: 98 ]

          خامسا: إن الفرد ينبغي ألا يتعنت أو يستبد برأيه الناشئ عن خطأ في التقدير بزعم أنه يتصرف في حقه، سذاجة وغفلة ودون تبصر بالأضرار التي تلحق مجتمعه الذي يشاركه الحياة، كما يشاركه في وحدة المصير : ( فإن يتركوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». )

          سادسا: تقييد حرية الأفراد في تصرفاتهم في حقوقهم ليس اسـتلابا لها أو امتهانا لهم أو انتقاصا من شخصيتهم المعنوية، وإنما هـو تقييد اقتضته الضـرورة، لحمايتهم هـم أولا وصـون كيان مجتمعهم ووقاية لهم جميعا مما عسى أن يؤدي بهم إلى سوء المصير، وهذا ما ينهض دليلا قويا على قيام الصلة الوثقى التي تربط بين الفرد ومجتمعه، حياة ومصيرا.

          سابعا: الحديث الشريف بإطلاقه يشمل التكافل الملزم في شتى مناحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحربية وغيرها، إذ لم يخصص هـذا التكافل بناحية دون أخرى لإطـلاق النص، كما يلقي المسؤولية الدنيوية والأخروية على الكافة: «وإن أخذوا على أيديهم» فيشمل بعمومه الأمة كلها، كما في الحديث: «الإمام راع ومسئول عن رعيته» [12] أي عن الأمة بعامة. [ ص: 99 ]

          ثامنا: بيـن الحديث أن التضاد يجب الحيلولة دون وقوعه، بمنع التسبب في إحداثه ولو تحت ستار الحق، سدا للذريعة، وهو مبدأ مجمع عليه، لأن دفع الضرر قبل الوقوع أوجب من رفعه وإزالته بعد الوقوع، وقد لا يمكن رفعه في بعض الحالات والظروف، وإلا فما معنى قوله: «هلكوا جميعا»؟

          تاسعا: يجب منع التسبب ولو بالقوة وسلطان الدولة وهذا مستفاد من نص الحديث: «وإن أخذوا على أيديهم» وهو المنع إكراها.

          كل ما سبقت الإشارة إليه يـبين بجلاء، أن مفهوم الحق والحرية والعدل في الإسلام منشؤه كون الحق الفردي وحق المجتمع، كليهما معترف به في التشريع، وعلى قدم المساواة من الاعتبار في غير محل العوارض والتضاد الطارئ..كلاهما يمثل «القيمة المحورية» التي يدور عليها التشريع كله، أحكاما وقواعد ومبادئ ومقاصد أساسية، دون إلغاء أحد منهما، أو تطرف نحو اليمين أو اليسار، وهذا هـو المنطق التشريعي والتطبيق العملي التوازني بين المنافع والمضار في الحياة الدنيا، الناتجة عن كل فعل مشروع في الأصل، وهو ما صوره حديث السفينة أروع تصوير. [ ص: 100 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية