الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الخامس: حماية الأموال

          يتضمن هـذا المقصد الشرعي الحماية الشاملة لجميع الناس في حق التملك وكيفية التصرف في أموالهم وحمايتها، كما يمتد في شموليته إلى الحقوق الاقتصادية كلها بما فيها حق العمل للكسب والإنتاج لصالح البشرية جمعاء توفيرا لحاجاتها وتيسيرا لظروف عيشها.

          ونحاول فيما يلي أن نبين بإيجاز مسألتين رئيسيـتين للمال، في ضوء الحديث النبوي، وهما:

          - أهمية الوظيفة الاجتماعية للمال.

          - الطرق المشروعة لكسب المال. [ ص: 76 ]

          أولا: أهمية الوظيفة الاجتماعية للمال في الحديث النبوي

          المال في اللغة هـو ما ملكته من كل شيء.. ففي لسان العرب: المال معروف وهو ما ملكته من جميع الأشياء [1] .

          والمال في اصطلاح الحنفية هـو: «ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع » [2] ، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة.

          يقدر الإسلام غريزة حب الذات وحب المال، ولذلك سجل الحديث النبوي على الإنسان هـذه الظاهرة، ( فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ) [3] .

          ويصور الحديث بخل ابن آدم بأمواله بكيفية منفرة، فيها تحذير وتوعد.. ( عن معاوية بن حيدة، رضي الله عنه ، قال: سـمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يأتي رجل مولاه يسأله من فضل عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع أقرع يتلمظ فضله الذي منع ) [4] .

          وفي هـذا معالجة لأمراض البخل والانـزواء وحب الذات علاجا نفسيا عميقا يحتوي على الترغيب والتحذير والحض والتشجيع ليصل الشارع عن طريق الدفع إلى الإنفاق والتعاون الإنساني والتكافل، الذي يجب أن يكون عاما بلا تفرقة، إلى أن تجود الأنفس الشحيحة بما تقدر عليه، لأن تفشي مثل [ ص: 77 ] هذه السلوكيات في المجتمع ينتج عنها تعريض النفس للهلاك في الدنيا، إذ ينتشر الحقد ويعم الحسد والتباغض، ففي الشح تعريض للفرد والجماعة للهلاك بما يشيعه من تفاوت في المجتمع مفض إلى الظلم والفتن والتفكك.

          وفي المقابل نجد أن الرحمة بين الناس دعامة من دعائم الإيمان وثمرة من ثمار تأثر المسلم بتعاليم دينه، وهذه الرحمة تشمل بآثارها كل المخلوقات. ( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنـزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هـو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال:لقد بلغ هـذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسـكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشـكر الله له، فغفر له.. قالوا:يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر ) [5] .

          سلك الإسلام طريقين لتحقيق الوظيفة الاجتماعية للمال هـما:

          - العلاج الروحي

          ويتمثل في بيان حرص الإسلام على تنظيم العلاقات البشرية تنظيما يكفل للمجتمع السعادة والسلام، ويغرس في نفوس البشر الحب والتعاون، ويجعلهم كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) [6] . [ ص: 78 ]

          - سن التشريع العملي لتطبيق ما حث عليه نظريا

          حيث كان تشريع الزكاة، وهو هـو خير نظام مالي به يكون التكافل الاجتماعي، الذي يثبت للفقير الحق في مال الغني، ولهذا فإن اكتناز المال وعدم إنفاقه أو منع استثماره يعد جريمة. ( فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا توعي فيوعي الله عليك، ارضخي ما استطعت ) [7] .

          - الإسلام مع الفقـراء

          لقد جعل الله المال للخلق جميعا، لا امتياز فيه لبشر على آخر، وها هـو ( رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب، عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وقد أعطاه الله بسطة في الرزق، فيقول له: يا ابن عوف إنك من الأغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض الله يطلق قدميك، فقال: وما أقرض الله يا رسول الله؟ قال: تبرأ مما أمسيت فيه (أي تخرج من مالك) ، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أمن مالي كله أجمع يا رسول الله؟ قال: نعم، فلما خرج عبد الرحمن ينفذ ذلك أراد له الإسلام أمرا آخر فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يضيـف الضيف، ويطعم المسكين، ويعطي السائل، ويبدأ بمن يعول ) [8] . [ ص: 79 ]

          - الإسلام ليس ضد الأغنياء

          إن المبدأ الأسـاس للإسلام هـو أن يفهم الناس أن المال ليس هـدفا وإنما هـو وسيلة لتحقيق هـدف هـو إحياء المجتمع البشري في ظل جو من التعاون والحب والتعاطف، وأراد الإسـلام أن يفهم الأغنياء أنهم بأدائهم ما على المال الذي في أيديهم من حقوق «للغير» ليس في هـذا الأداء تضحية، فهم مستخلفون في مال الله.

          ( عن طارق المحاربي رضي الله عنه ، قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك.. ) [9] . هـو إشارة إلى بيان لحقيقة موقف الأغنياء مما تحت أيديهم من مال. فالمال ليس هـدف الحياة بل هـو وسيلة من وسائلها لأداء وظيفة اجتماعية ومسئولية إنسانية خطيرة.

          - الإساءة في استعمال الملكية توجب إسقاطها

          أباح الإسـلام للحاكم أن ينـزع الملكية الخاصة من صاحبها إذا اتخذها وسيلة للإيذاء. ( فعن سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب [ ص: 80 ] إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، أمرا رغبه فيه فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله ) [10] .

          وهكذا، يتضح لنا أن للحاكم أن يزيل الملكية الخاصة إذا أساء صاحبها بها إلى «الغير» وأضر بها بمصالح المجموع.

          -العقوبة للمعتدي على ملكية «الغير»:

          قد أحاط الإسلام ملكية المسلم وغير المسلم بسياج قوي من الحماية، ففرض عقوبات قاسية على كل معتد عليها، أيا كانت صورة هـذا الاعتداء. فقرر عقوبة قطع اليد في السرقة، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتشدد في تنفيذ حد تشدده في تنفيذ حد السرقة. ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) [11] .

          - توازن الملكية بين طبقات المجتمع وأفراده

          أجاز الإسلام للحـاكم أن يسن من القوانين ما يكفل حسن توزيع الثروة بين الناس وإن أدى هـذا إلى إيثار طائفة على طائفة، فقد منح النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 81 ] أموال الفيء من بني النضير للمهاجرين خاصة ولرجلين فقيرين من الأنصار ؛ لأن المهاجرين كانوا قد حرموا أموالهم التي يملكونها في مكة، وكان للأنصار أموالهم، أما الرجلان اللذان أعطاهما من الأنصار فهما سهل بن حنيف وأبو دجانة ، وذلك لفقرهما، وأوجب الإسلام على الغني أن يتنازل عن جزء مما يملك للفقير [12] .

          ( عن أبي موسى الأشعري ، رضـي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الأشعريين إذا أرملـوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهـم ) [13] ، وذاك أن مسـقط الحظ هـنا قد رأى غيره مثل نفسه وكأنه أخوه وابنه أو قريبه أو يتيمـه أو غير ذلك ممن طـلب بالقيام عليه ندبا أو وجـوبا وإنه قائم في خلق الله بالإصـلاح والنظر والتسـديد، كما أن الأب الشـفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده. فعلى هـذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم ( فقال صلى الله عليه وسلم : «فهم مني وأنا منهم ) لأنه كان في هـذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر، إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته [14] . [ ص: 82 ] وهل هـناك مذهب اقتصادي أو تشريعي مالي في أرقى أمة يلزم ولي الأمر بسداد دين الناس كما فعل الإسلام في أحد مصارف الزكاة، أعني «الغارمين»؟. ( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته ) [15] .

          في هـذا المضمار نجد واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم يعكس المثل الأعلى والقدوة التي ينبغي أن تتبع في كيفية التزام العدل، قولا وممارسة وعلى كل المستويات الشخصية والاجتماعية والإنسانية، فقد كان يحب العدل في كل شيء، ويأمر بالتقيد به حتى في أخص خصوصيات الإنسان، ويوصي به أتباعه، ( فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه ) [16] .

          فمهمة المال في الإسلام مهمة حسية وهي تسديد حاجات البدن، وروحية بالإنفاق استعدادا ليوم الآخرة، واجتماعية بتفريج كرب المجتمعات وتحقيق مصالح الجماهير.

          وإن ما بدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، يستحق الوقوف عليه طـويلا لنستخرج منه العظة، ونفهم من خلاله [ ص: 83 ] خاصية الفكر الاقتصادي الإسلامي التطبيقي، وفي الإمكان الوصول إلى الحقائق التالية:

          1- لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن عوف عمله التجاري ولا جمعه للثروة، فلو كان العمل الذي مارسه ابن عوف ليس مشروعا ما أقره صلى الله عليه وسلم ولوجب أن ينهاه عنه، بل لقد سأل الصحابي الرسول صلى الله عليه وسلم : هـل أخرج عن ثروتي كلها؟ فقال له الرسول أولا «نعم»، ثم رجع عن ذلك وبين له المطلوب.

          2- الثروة التي تجمع ليست لتكتنـز بل إحدى وظائفها البر بالناس، وأول من يستحق البر من يعوله صاحب المال.

          3- تبديد الثورة ممنوع، بل إنفاقها كلها ممنوع، والمطلوب أن تدور وتتحرك عجلة المال فتشمل صاحب المال وكل المحتاجين.

          هذه وظيفة المال في المجتمع الإسلامي، عدالة في التوزيع بأن يأخذ كل إنسان قدر ما يكفيه، وأن يعطي لكل إنسان الفرصة لتحصيل ما به قوام حياته من عمل وعلم وحرية في التصرف في حدود رقابة حازمة تحقق مصلحة الجميع.

          ثانيا: طرق كسب المال المشروعة

          إن الشريعـة الإسلامية تحرم المكسب الذي تم الحصول عليه بالغش، أو الخداع، سواء كان ذلك المكسب تجاريا أو مهنيا، أما احتكار السلع، وخاصة المواد الغذائية، بهدف رفع الأسعار واستغلال حاجة الناس بغية مضاعفة الربح فإنه عمل محرم ومذموم بشتى صوره وممارساته. [ ص: 84 ] فالمبدأ الإسلامي أساسا هـو أن المال يجب كسبه بالحق، كما يجب إنفـاقه أيضا بالحق (في الأوجه الشرعية، منعا لإلحـاق الضرر بالغـير) كما يجب حماية الثروة وتحصينها ضد الباطل، وأن يتم كل ذلك في ظل رعاية الشريعة.

          ومن وسائل الكسب المعترف بها شرعا:

          1- العمل

          وهو بمفهومه العام: كل حرفة إنتاجية يمتهنها الفرد مصدرا لتأمين الرزق وإعانة نفسه وذويه. إن النص النبوي يؤكد المقولات الفكرية الاقتصادية الحديثة الحاثة على العمل والإنتاج قدر الإمكان بدلا من التسلق على عمل «الغير»، بهذا جاء النص النبوي يكرم العمل وينوه بشأنه. ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود، عليه السلام ، كان يأكل من عمل يده ) [17] .

          ومن الأمور التي يجب أن لا يتغافل عنها العامل في عمله -سواء كان أجيرا أو مؤجرا- ما يلي:

          أ- الإتقان في العمل

          اعتبر الإسلام أن العمل عبادة، ولذا يجب أن يكون متقنا.. ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن [ ص: 85 ] يتقنه ) [18] . ( وعن أبي هـريرة، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح ) [19] .

          ب- إعطاء أجر العامل

          حق المنتجين في أجور أعمالهم حق مصون يجب أن يؤدى، دل على ذلك الحديث القدسي: ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره ) [20] .

          ووجه الاستدلال بالحديثين السابقين هـو أن الرسول طلب من الرجل الصحيح السليم العمل وكره له أن يكون عضوا عاطلا، وفي سبيل ذلك طلب من المجتمع الإسلامي تحديد العلاقة الأجرية حتى لا يكون ثمة نـزاع أو إهمال في العمل.

          ج- ربط العمل بالعبادة ورقابة الضمير

          وحرصا من الشريعة على تركيز الأساس الاقتصادي ربطت بين الآخرة والعمل والثواب في الأخرة، فالعامل وهو يعمل عليه رقيب لا ينسى ولا يغفل هـو خالق البشر، وعلى العامل أن يفهم أن الدنيا رحلة إلى حياة أبدية، والذخيرة لها العمل الصالح [21] . [ ص: 86 ]

          د- أن يكون العمل مشروعا

          لا ينظر الإسلام إلى العمل لتقويم صاحبه، فطالما كان العمل قائما على المبادئ العامة للإسلام ولا يشكل ضررا لأحد فإنه يعتبر عملا شريفا شرعا.. ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه ) [22] .

          هـ- على ولي الأمر توفير العمل لقد اهتم الإسلام بتنظيم الاقتصاد بتقرير حق العمل لكل إنسان، ( فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء.. قال: ائتني بهما.. قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هـذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم.. قال: من يزيد على درهم، مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به.. فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما.. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا [ ص: 87 ] وببعضها طعاما.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هـذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ) [23] . وفي هـذا الهدي النبوي تشريع مهم للعمل مع مسئولية الدولة ومسـئولية الفرد التي يقررها الرسـول صلى الله عليه وسلم في قوله : ( كلكم راع وكلكم مسـؤول عـن رعيته ... ) [24] ، ونستـخرج من هـذه الحادثة المبادئ الآتية:

          - إن المتعطلين كانوا يرون أن لهم حقوقا على الدولة فيذهبون إلى ولي الأمر طلبا لهذه الحقوق، وليدبر لهم أمرهم بما يراه، وكان ذهابهم بعزة وكرامة لأن صاحب الحق لا يكون ذليلا.

          - إن الدولة تقر بحقوق المتعطلين، وتعترف لهم بها، ولا تنكرها عليهم، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استمع إلى حكاية الرجل ولم يزجره وأقره على حضوره إليه ولم يطرده.

          - إن الدولة لا تكتـفي فقط بالاعتراف بحقوق المتعطلين، بل تتدبر لهم العمـل فورا، ولا تتركهم عرضة للتسـويف والمماطلة، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالانصراف إلا بعد أن دبر له أداة العمل والمكان الذي يعمل فيه. [ ص: 88 ] - وجوب اطمئنان الدولة على يسر العامل ورخائه، وقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بإيجاد العمل للمتعطلين بل طلب أن يعرف ما صارت إليه حالته ليطمئن عليه، وهذا هـو السمو الذي تفرد به الإسلام ولم تصل إليه شريعة من الشرائع أو نظام من الأنظمة.

          - حق العمال على الدولة أن تهيئ لهم فرص العمل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جهز الرجل بآلة العمل، إذ أحضر القدوم ووضع له اليد ودفعها إليه.

          2- وضع اليد بطريق مشروع

          وهو كوضع اليد على أرض ميتة لا مالك لها لإحيائها واستنابتها، وفي ذلك ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : من أحيا أرضا ميتة فهي له ) [25] .

          3- الخلافة

          وذلك بطريق الميراث والوصية.

          أ- الميراث

          انتقال ملكية المال إلى ورثة مالكه هـو حق وعدل ونظام اقتصادي سليم، فالذي يعمل ويحصل ما يزيد عن حاجته ثم يتجمع له من هـذا الفائض شيء إلى أن يدنو أجله فهذا المال هـو حق لذوي قرابته من ولد وزوج وغيرهم؛ لأنه إذا لم يملك المال ورثته سيؤدي ذلك إلى التخريب الاقتصادي [ ص: 89 ] وسيبدد مالك المال ماله فيما لا يفيد.. إلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قائلا: ( العمرى ميراث لأهلها ) [26] . أي: هـبة العقار لشخص مدة حياته أصبحت ميراثا لأهلها.

          وفي بيان توزيع التركة على الورثة، جاء " عن ابن عباس رضي الله عنه ، أنه: كان المـال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعـل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر الربع» "[27] .

          قيل: إن كان للذكر مثل حظ الأنثيين فهذا يدل على عدم إنصاف المرأة في الميراث، يقول أحمد الحصري في كتابه: «السياسية الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الإسلامي» ردا على هـذه المقولة : هـو كذب نتيجة جهل القائل به بالنظام الطبيعي للحياة، وجهله بما حققه الميراث من عدالة تسير مع هـذا النظام، ومن مارس الحياة، سيجد أن الإسلام قد سوى في الميراث بين الرجل والمرأة، بل إنه قد أعطى المرأة أكثر من الرجل فيه، فللذكر حق ضعف الأنثى في الميراث ليقابل بالضعف الزائد ما ألزم به الرجل من واجبات وما أعطى الإناث من حقوق قبل الذكور وبقدر ما أعفاهم من واجبات، تحمل بها هـؤلاء الذكور، والنتيجة الحسابية أن الرجل والأنثى في الميراث على قدم المساواة [28] . [ ص: 90 ]

          ب- الوصية

          هـي طريق من طرق نقل المال، وأقرها الإسلام بشروط تبعد بها عن المحاباة والظلم، وتجعلها قائمة على الحق والعدل... ومما قيده بها :

          - أن لا تكون الوصية للوارث. ( فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال سمـعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عـام حجة الوداع: إن الله قد أعطـى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) [29] ، حتى لا يجمع بين المـيراث والوصـية، ولا تحاز الثـروة إلى فـرد، وتتحقـق حـكمة الميراث والوصية.

          - أن يكون المقدار الموصى به غير متجاوز الثلث، اعتبارا للحقين معا، حق المالك وحق الوارث للمال... ( عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه ، قال: مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن لا يردني على عقبي.. قال: لعل الله يرفعك وينفع بك ناسا.. قلت: أريد أن أوصي وإنما لي ابنة قلت أوصي بالنصف، قال: النصف كثير.. قلت: فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير -أو كبير- قال فأوصى الناس بالثلث وجاز ذلك لهم ) [30] . [ ص: 91 ]

          4- أموال الزكاة (للمحتاج)

          الزكاة ضريبة سنوية مستحقة على المال كالتزام ديني يفرضه الإسلام على المسلمين فقط، وهي تمثل نسبة 2.5 % مما بلغ النصاب الشرعي، وحدها الأدنى يبلغ مائتي درهم فضة نقدا، كما تنطبق الزكاة أيضا على أنواع الثروة الأخرى مثل: قطعان الماشية والأبقار والإبل والسلع التجارية والمحاصيل الزراعية كالتمور والزبيب والحبوب...إلخ، حيث يتم تحديد الحد الأدنى من النصاب المستحق وفقا لكل نوع من أنواع الثروة [31] .

          إن الزكاة فرض وركن من أركان الدين، وهي حق في المال يؤخذ من مانعه كرها وجبرا، وهي ليست تبرعا أو إحسانا، ولكنها حق إلزامي أمر الله بأخذه من المال. فالزكاة طهارة للنفس وتزكية للمال وليست جرما أو شرا [32] . [ ص: 92 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية