الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثاني: علاقة العقيدة بالشريعة

          إن الإسلام لا يتكون من عقيدة فحسب وإنما يتكون من عقيدة وشريعة معا. وبناء الإسلام للشخصية يقوم على ترسيخ العقيدة أولا في الأعماق ثم المطالبة بعدها بأوامر الشريعة كلها، لهذا جاء النظام الإسلامي محققا لحريات الأفراد وحقوقهم من واقع العقيدة، التي هـي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هـذا الدين كله.

          فما قرره الإسلام من أمر ونهي أو إباحة يعتبر ملزما للدولة وللأفراد على السواء، ويأثم مخالفه، مستحقا غضب الله، ( فعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قل آمنت بالله فاستقم ) [1] . ( وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها... ) [2] . [ ص: 110 ] ونستدل من هـذا، أن كل التصرفات والأعمال يجب أن يكون منبعها الإيمان، وبذلك يكون الحاكم والمحكوم سواء أمام واجب الطاعة لأحكام الله. وطاعة الحكام ليست واجبة استقلالا بل هـي تابعة لطاعتهم لله، بتنفيذهم لشرعه وأوامره، فتكون طاعتهم بهذا واجبة بإيجاب الله لها، ويعد القيام بها صورة من صور التعبد لله.

          فالسلطة في أيدي الحكام أمانة، وأول من عرفها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( فعن أبي ذر رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) [3] .

          فالفرد إذن يعبد الله وهو يمارس حقوقه ويؤدي واجباته.. والحاكم يعبد الله وهو يعدل بين الناس ويعطي كل ذي حق حقه، له في كل من ذلك حسنة وعليه في كل مخالفة لشيء من ذلك وزر.

          ذلك أن حق الله وحق العبد متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. فالأحكام الشرعية الإسلامية تقوم على المعنى التعبدي الروحي وعلى المعنى القانوني النافع للإنسانية.

          ولذلك كان الإسلام بكل مكوناته، وفي مستوى رؤيته الاجتماعية، توجيها لحقوق العباد بعضهم قبل بعض، وتأكيدا على مبادئ الحرية [ ص: 111 ] والمساواة. ( فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [4] .

          كما كان ميثاق المسلمين الأول للنبي صلى الله عليه وسلم هـو حماية لحرية النفس من عبودية الإنسان للإنسان، وحماية لحق الملك، وحماية للنفس والعرض. ( عن أبي إدريس عائذ الله رضي الله عنه ، أن عبادة بن الصامت -من الذين شهدوا بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ليلة العقبة - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله عصابة من أصحابه: « تعالوا بايعوني على: أن لا تشـركوا بالله شيئا، ولا تسـرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ) [5] .

          وهكذا يكون نظام المجتمع كله مرتبطا بفكرة الإيمان، والأعمال كلها تستهدف الامتثال لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذ هـي مناط المشروعية العليا وهي الضوابط لكل القرارات والتصرفات سواء صدرت من الأئمة العلماء أو ممن هـم أدني منهم. [ ص: 112 ] ونخلص من هـذا إلى أنه ليس هـناك قوة أقدر على تربية الغرائز الحيوانية ومعالجتها في الإنسان وتهذيب الطباع العدوانية ومقاومة الأهواء التي تنـزع بالإنسان إلى عبادة المال وإلى الاستبداد مثل الضمير الديني، الذي تحيا الأمم بحياته وتموت روحيا وأخلاقيا بموته.

          فللتعاليم السماوية قداستها ووقعها في القلوب ودورها الإيجابي في حسن التعامل والممارسة النـزيهة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية. فإذا سادت وتغلغلت يتكون منها رأي عام يحرس المثل العليا والقيم الإنسانية السامية من الخارج ورقابة حازمة تصد عن الشر والإثم وتهدي إلى الحق.

          فالتحرير المادي يجب أن يسبقه تحرر نفساني روحي نتخلص به من عبودية أهوائنا وشهواتنا.

          وإذا كان النظام الإسلامي جاء محققا لحريات الناس وحقوقهم فإن معرفة أحكام الله في حقوق الناس وقضاياهم لا تحتاج إلى دراسـة عميقة أو جهد كبير، وإنما في استطاعة العقل أن يصل إلى الحق، ولكن كيف يتم ذلك؟ وما هـي صورة معالجة العقل لقضية حقوق الإنسان؟ وما علاقة العقل بالروح في تحقيق ما نؤمن به من الأهداف؟ [ ص: 113 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية