الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثالث: توجيه الطاقة العقلية

          يوجه الحديث النبوي الطاقة العقلية أولا إلى التأمل في حكمة الله وتدبيره، وهو الله الخالق المدبر، الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويدبرها بالحق، ذلك موضوع التأمل وهو بحر واسع من التأملات لا ينتهي ولا ينفد، ولقد عالجت الفلسفات هـذا الأمر من أول ظهورها إلى اليوم، ولكن في ذهنيات مجردة جافة لا تنبض بالحياة ولا تصل إلى غاية، بينما يمزجها الحديث النبوي بنداوة الروح فتنبض وتسري الحياة إليها فتهز القلب البشري وتربطه بالله. [ ص: 120 ] إن هـذا التأمل ليس مقصودا لذاته، إنما غايته إصلاح القلب البشري وإقامة الحياة في الأرض على أسس من الحق والعدل.

          الحق إذن في بنية الكون ذاته يوم خلقه الله، فقد خلقه بالحق، فامتزج الحق بكيانه وارتفع عن الباطل والضـلال. فالـكون لم يوجد مصـادفة ولم يوجد باطلا ولا عبثا، وكذلك الإنسان. ( وهو ما صوره النبي صلى الله عليه وسلم في بعض دعائه، حين كان يقول: «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حـق، وقولك حق، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق... ) [1] .

          هذا الحديث عميق جدا في بناء الفكرة الإسلامية. والإسلام لا يزال يلح في تأكيده والتوقيع على الحس البشري ليتنبه إليه. إنه أساس العقيدة الذي تنشأ عليه الحياة.

          ونفهم من هـذا، أن الإسلام يربي النفس البشرية فيعمق في شعورها الإحساس بالحق حتى يصبح هـو العقيدة ويصبح هـو الحياة. ومن ثم ستكون نهاية المطاف هـي العمل والتنفيذ بمقتضى الدستور الحق والجهاد في سبيل [ ص: 121 ] إقرار هـذا الدستور وتسيير دفة الحياة على نهجه وشـريعته ثم تصل إلى الجزاء في الآخرة.

          ويوجه الحديث النبوي الطاقة العقلية إلى النظر في حكمة التشـريع كما جاء في الحديث السابق: ( اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حـق، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق ... ) [2] .

          ( وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) [3] . ( وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، قال، ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علمه الكتاب ) [4] .

          نستدل من هـذه الأحاديث أن التشريع من عند الله ولكن القائمين به هـم البشر، وينبغي أن يكون البشر واعين بحكمة التشريع وإلا فلن يطبقوه بتمامه ولن يطبقوه على وضعه الصحيح. [ ص: 122 ] إن الحياة لا تسير بطريقة آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية انطباقا آليا وإنما هـناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة، وما لم يكن الإنسان فاهما للحكمة الكامنة وراء التشريع وفاهما لترابط التشريعات في مجموعها فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية.

          لقد اعتنى الحديث النبوي - كما سبق ذكره - بإيقاظ العقل البشري لتدبر الآيات القرآنية وفهمها ووعيها حتى يستطيع تطبيقها على خير وجه. ولهذا وذاك طلب يقظة الإنسان لحكمة التشريع الإلهي ووعيه وتدبره ضمانا لسير الأمور في الأرض على نهج من العدالة والحق المستمدين من عقيدة الإيمان بالله.

          ولكن ينبغي أن نلاحظ كيف امتزج التشريع دائما بالتوجيه إلى الله؟

          لا تكاد تخلو آية تشريعية في القرآن ولا قول من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية من ذكر الله والتوجيه إلى خشيته والترغيب في مثوبته ورضاه.

          وكان من مزايا هـذه العقيدة الكبرى أنها أطلقت العقل البشري يعمل في أوسع نطاق، وكان من آيات الإسلام الكـبرى أن دعوته إلى الإيمـان بالله لم تقهر العقل بالخوارق بل خاطبه ووعاه وأيقظه وناقشه وجعله يشترك في عملية الإيمان الواعية الجديرة بالإنسـان، الذي كرمه الله بالعقل والبصيرة. ومن الشواهد الدالة على هـذا التوجه حديث عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، [ ص: 123 ] ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) [5] .

          فهذا الحديث يفيد معنى التشجيع على التفكير والاستدلال العقلي والقياس في أمر الدين والدنيا معا.

          ولكن، كما أسلفنا،لم يدع الشرع الإنسان، العقل، يحمل العبء الثقيل وحده وإنما أعطاه دائما إشعاعة من قبس الروح المضيئة، تضيء له الطريق، وزوده دائما بنور الإيمان، وكان في ذلك ملبيا لطبيعة الفطرة، ملبيا لحقيقة الكيان البشري الذي لا تنفصل فيه طاقة عن طاقة ولا جزء عن بقية الأجزاء.

          وكما أطلقه من قبل يتدبر في آيات الله في الكون ليهتدي إلى الحق في خلق السماوات والأرض والحياة والإنسان ويعمل بمقتضى هـذا الحق ويجادل في سبيل إحقاقه، فكذلك يطلقه هـنا يفهم حكمة التشريع ليهتدي إلى ذلك الحق فيعمل بمقتضاه.

          من هـنا يمتزج التشريع بالتوجيه، وتمتزج الأحكام بالتقوى، التي تضيء الوجدان.. ولم يكن ذلك تلبية لفطرة النفس الداخلية فحسب، بل كان كذلك خير سياسة تضمن سير الأمور في المجتمع بدافع من الرغبة لا بدافع الخوف من العقاب. [ ص: 124 ] بهذا نفهم أن هـناك أمرين متلازمين: هـما الحد الأدنى المفروض والحد الأعلى المطلوب، وهما تلازم التشريع والتوجيه وامتزاجهما، حتى أصبحا شيئا واحدا عسير التفريق.

          ويوجه الحديث النبوي الطاقة العقلية إلى النظر في سنة الله في الأرض وأحوال الأمم والشعوب على مدار التاريخ.. ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ) [6] .

          وهذا مما يؤكد وجوب النظر فيمن كان قبلنا من الأمم والأقوام الذين هـلكوا بما كسبت أيديهم. وهذه الدعوة المتكررة إلى النظر تلفت الانتباه ولاشك، إنها دعوة تلح على الناس أن ينظروا في تاريخ من كان قبلهم، ويدرسوا عوامل الفناء والبقاء في المجتمعات دراسة واعية متفتحة بصيرة معتبرة.

          إنها دعوة للنظر والاعتبار، دعوة للاستفادة من تجارب البشرية السابقة، ودعوة ذات منهج مرسوم. إن تاريخ الأمم وحياة المجتمعات في نظر الإسلام ليست أطوارا متعاقبة بغير معنى ولا هـدف ولا غاية ولا نظام، إنها تتبع سنة معينة، وهي سنة الله التي تعمل بما أودعه الله في الإنسان من طاقات واستعدادات وما أعطاه من قدرة على الاختيار بين أحد طريقين: إما طريق [ ص: 125 ] الضلال أو طريق الهدى.. الهدى يتبعه الخير والبركة والتمكين في الأرض، والضلال يتبعه الفساد والضعف والانحلال والفناء.

          ومما ينبه على هـذه الحقيقة حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي ( عن ربه عز وجل قال: قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هـم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هـو هـم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن هـم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هـو هـم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة ) [7] .

          وكذلك ( قول رسول الله: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشـيطان الرجيـم ثم قرأ: ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) ) [8] . [ ص: 126 ] كل هـذا يبين لنا أنه ليس للبشرية في تاريخها كله سوى أحد هـذين الطورين المتغايرين، أما طور الحسنات أو السيئات، أي طور الخير أو الشر، طور الحلال أو الحرام، وذلك مهما بدا في الظاهر من تطور وتغير وانتقال.

          فالبشر لا يحتاجون إلى أن يصارعوا الله ليحصلوا على المعرفة التي تبين لهم طريق الخير وطريق الشر، وهو الذي وهب للناس السمع والأبصار والأفئدة وكل شيء من متاع الدنيا، فالرد على هـذه المواهب الجليلة كلها هـو الشكر والعرفان والمودة والحب وليس العصيان والكفر.

          والعلاقة بين العقل والروح قائمة أبدا لا تنفصم في منهج الإسلام من ثم لا يضـل العقـل -وهو يتعلم– ولا ينحرف عن طريق الخير ولايستخدم معلوماته في سبيل الشر.

          والعلاقة بين الروح والمادة قائمة، فلا تستعبد الإنسان المادة، ولا يقع فريسة للآلة تستعبده وتسيطر عليه، وأنه حافظ لكيانه المتكامل، مستمد قوته من الله، ومن ثم يظل هـو المسيطر وهو العنصر الإيجابي الفعال.

          تلك طريقة الإسلام في معالجة العقل وتربيته. [ ص: 127 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية