الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثاني: دور الطاقة الحيوية في معالجة الحقوق

          اعترف الإسلام بالطاقة الحيوية للإنسان اعترافا صريحا قويا، وأنه يربيها كما يربي طاقة العقل وطاقة الروح بالتنظيف والتهذيب، وأنه لا يستقذر الطاقة الحيوية في ذاتها ولا يحتقرها ولا ينفر منها بل يدعو إلى الاستمتاع بالطيبات والإقبال عليها، بل يزيد في الاحتفاء بها فيجعل عليها أجرا، ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ... وفي بضع أحدكم صدقة.. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا ) [1] . [ ص: 131 ] هذا يدل على أن الإسلام يحترم الطاقة الجسمية احتراما كاملا وأنه ينظمها ويضبط مصارفها، لأنها إذا تركت وشأنها دمرت الكيان البشري.

          إن للحياة -كما خلقها الله- أهدافا حيوية لا بد من تحقيقها لتستمر الحياة على وجه الأرض، وهي أهداف تتمثل في المحافظة على النوع عن طريق المحافظة على الفرد. وقد وضع الخالق في الفطرة ضمانة التنفيذ، وضعها في صميم البنية، وفي مادة الجسم، وفي تلك القبضة من الطين من الأرض.

          ولكي يحافظ الفرد على نفسه ونوعه لابد له مما يلي:

          أولا : طعام وشراب وكساء ومأوى ينام فيه، ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس لابن آدم حق في سوى هـذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء ) [2] .

          ثانيا : طاقة جنسية للتوالد. ( فعن المستورد بن شداد ، رضي الله عنه ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا ) [3] . ( وعن أنس ، رضي الله عنه ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا، ويقول: « تزوجوا الودود الولود، إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة ) [4] . [ ص: 132 ]

          ثالثا: طاقة للدفاع عن نفسه وعن غيره ضد أي اعتداء، أشـار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقـوله: ( ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ) [5] .

          رابعا: أن يحب نفسه فردا متميزا مستقل الكيان ويحب نفسه عضوا في جماعة تتكون من نفسه ومن الأفراد الآخرين، كما يحب هـذا الكيان المجتمع المتركب من شخصه ومن الآخرين. ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [6] . ( وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) [7] .

          ففي هـذه الأحاديث بيان لأهم الحاجات الفسيولوجية الأساسية للإنسان وأهم الدوافع الفطرية التي أودعها الله فيه ليحافظ على نفسه ويحافظ على نوعه. وجعل في بنيته الضمان لتحقيق أهدافها وتنفيذ مطالبها وحقوقها. وهذه الدوافع لا تحتاج في الإحساس بها إلى التفكير.

          فكل دفعة فطرية أو كل مطلب من مطالب الحياة مزود بضمانين في وقت واحد، ضمان يدفع من الخلف وضمان يجذب من الأمام. أحد الضمانين هـو الألم الناشئ عن عدم تحقيق الرغبة والآخر هـو اللذة الكافية في التحقيق.

          فالألم واللذة الكامنان في بنية الجسم وبنية النفس هـما الدافع الأكبر من بين دوافع الحياة. ولكن هـذه الدوافع تعرض الإنسان في الوقت نفسه للخطر. كيف ذلك؟ [ ص: 133 ]

          - خطر الإسراف في الدوافع الفطـرية

          نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسـراف في إشـباع الدوافع الفـطرية، وأكد ذلك بقوله: ( كلـوا واشربوا والبسـوا وتصـدقوا في غير إسـراف ولا مخيلة ) [8] [9] .. وأشار صلى الله عليه وسلم إلى ما يسبب الإسراف في الأكل من الإضرار بالصحة. فعن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال: ( قال صلى الله عليه وسلم : «لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هـذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضرة، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت الشمس فاجترت [10] وثلطت [11] وبالت ثم عادت فأكلت، وإن هـذا المال حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هـو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ) [12] .

          ففي هـذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مضار كثرة الأكل على الصحة، مشيرا إلى أن كل ما أنبت الماء الذي يجري به الربيع وهو الجدول أو النهر الصغير، يقتل حبطا أي انتفاخا من كثرة الأكل، أو يلم أي يقرب من الهلاك.

          نستدل من هـذا أن الإسراف يجعل اللذة تنقلب إلى ألم والمتعة إلى عذاب. فالذي يسرف في الطعام لا يشبع كما يبدو لأول وهلة، بل يصيبه النهم فلا يقنع ولا يستريح. والذي يسرف في إمتاع الجسم بالراحة لا يشعر [ ص: 134 ] بمزيد من الراحة. والذي يسرف في الجنس لا يأخذ مزيدا من المتعة. والذي يسرف في الملك لا يزداد متعة بما يملك بل يصيبه الجشع فلا يشبع مهما امتلك ويظل يشعر دائما بأن ما لديه قليل وأنه في حاجة إلى مزيد ومن ثم يتعدى على ملك «الغير» بل يتجرأ عـلى سفك الدماء للحصول على كل ما يشتهي، فينتهك حقوق «الغير» من جراء الإسراف في الدوافع الفطرية.

          لقد نهى الحديث النبوي عن الإسراف، لأنه أمر لا يحبه الله، وهو يفقد التوازن والاعتدال في الكون. ولهذا، هـدد النبي صلى الله عليه وسلم من أسرف في أمر من الأمور، كما أشار إلى ذلك الحديث الذي رواه أبو هـريرة رضي الله عنه : ( كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح، فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا.. فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه.. ففعلت.. فإذا هـو قائـم.. فقال: ما حمـلك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك.. فغفر له ) [13] .

          إن الانطلاق مع الشهوات والإسراف في كل أمر من الأمور يستنفد الطاقة المذخورة أولا بأول، ولا يترك رصيدا للقوة الصاعدة، فضلا عن أنه يهبط بالإنسان إلى درجة من الشعور والتفكير والسلوك لا يصلح معها للارتفاع.

          والإنسان خليفة الله في الأرض، وهو القوة الإيجابية الفاعلة المريدة المنشئة بإذن ربها، إن استهلك جهده في تحقيق مطالب الحيوان ودوافع [ ص: 135 ] الحيوان والانطلاق مع الشهوات، فكيف يتحقق له كيان الإنسان؟ كيف تتحقق له الخلافة ؟ كيف ينشئ الحضارة والأفكار؟ كيف يعمر الكون؟ كيف يؤدي رسالة الحق والعدل المستمدين من ذات الله وسنته التي أجرى عليها أمر السماوات والأرض والحياة؟ والإنسان قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، فكيف يحقق كيانه الكامل إذا أخلد إلى الأرض واتبع هـواه ولصق بالطين واستعبدته الشهوات؟

          إذا كان ذلك كذلك، فما هـي الطريقة المثلى لتصريف الدوافع الفطرية؟ وما هـي الضوابط التي تتطلبها هـذه الدوافع في معالجة قضايا حقوق الإنسان؟

          - ضوابط الدوافع الفطرية

          من الدوافع الفطرية التي أودعها الله في الإنسان شهواته، ولكن الإسلام لايترك الإنسان لهذه الشهوات تستعبده وتجرفه إلى حيث لا يمكن لنفسه القيادة، وإنما يضبطها ويهذبها وينظمها دون أن يكبتها، لأن الكبت مناف لفطرته ومنهجه في الحياة. ( فعن ابن مسعود، رضي الله عنه ، قال: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا: ألا نستخصي؟! [14] فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (المائدة:87 ) [15] . [ ص: 136 ] فجماع فكرة الإسلام ومنهجه في التعامل مع الدوافع هـو أخذ الكائن البشري بجميع خصائصه وجميع طاقاته واستغلالها كلها لتحقيق أهداف الحياة، واحترام كل طاقة ما دامت تؤدي مهمتها التي فطرها الله عليها.

          وفي ظل هـذه الفكرة وذلك المنهج لا يوجد مجال للكبت ولا أصل لمحاربة الطاقات. وكيف يكبتها الإنسان ويحاربها وهو في حاجة إليها، وهي الطريق المضمون للعمل والإنتاج، اللذين يحتاج إليهما لكي ينهض بواجب الخلافة في الأرض وعمارتها؟

          إذا كان الأمر كذلك، فما هـي الضوابط والمعايير التي أرشد إليها الحديث النبوي لكي تسير الأمور في الاتجاه الصحيح؟

          الضبط هـو عملية واعية وامتناع رشيد يكون تحت تأثير الصراع النفسي لدى الإنسان بين دوافعه المتعلقة بإشباع حاجته البدنية وأهوائه وشهواته الحسية ورغباته وطموحاته الدنيوية من جهة ودوافعه الدينية وأشواقه الروحية من جهة أخرى. تلك الدوافع، الدينية، التي تحثه على السيطرة على دوافعه البدنية وشهواته الحسية وتدفعه إلى التحكم في أهوائه وأطماعه وطموحاته الدنيوية، من أجل الحصول على السعادة في الحياة الآخرة الباقية.

          لقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الصراع النفسي بين الجانب المادي والجانب الروحي في الإنسان وصفا دقيقا بتمثيله بمثال بليغ يصور هـذا الصراع تصويرا حيا واقعيا. فعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن [16] فيها، قال: [ ص: 137 ] فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم [17] فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم [18] عن النار، هـلم عن النار [19] هـلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها ) [20] .

          كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم هـذا الصراع في مقارنته بين رجلين، أحدهما كيس عاقل يكبح جماح شهواته ويسيطر على أهوائه، ويعمل للحياة الآخرة، والآخر قاصر العقل عاجز عن التفكير السليم يتبع أهواءه ولا يعمل لآخرته. ( فعن شداد بن أوس ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكيس من دان نفسه [21] وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هـواها وتمنى على الله ) [22] .. ( وعن أبي برزة الأسلمي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مما أخشى عليكم شهوات الغي [23] في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن ) [24] .

          إن الحل الأمثل للصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان هـو التوفيق بينهما. أشـار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ( في قوله لعبد الله بن عمـرو ابن العاص ، رضي الله عنهما : يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم [ ص: 138 ] ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا... ) [25] . يتضح من هـذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوسط والاعتدال في إشباع كل من دوافع الإنسان الفيسيولوجية والنفسية والروحية، وينهى عن الإسراف في إشباع كل منها.

          ولكن كيف يكون طريق التوسط والاعتدال؟

          الإجابة عن هـذا السؤال تكون بأخذ الكائن البشري بجميع خصائصه وطاقاته، من روح وعقل ودوافع فطرية.. فالإسـلام يرفع من شأن العقل بما هـو وسيلة إلى العلم والنفاذ إلى حقائق الأشياء التي يؤسس عليها الاعتقاد الحق. والعقل عنصر ذاتي من مقومات الفطرة فإنه يقيم بذلك الدليل البين على خيرية هـذه الفطرة (راجع المبحث الثاني من هـذا الفصل ) .

          وإذا ثبتت خيرية الفطرة الإنسانية أصلا فقد ملك الإنسان القدرة على أن يغلب جانب الحكمة والتعقل على الهوى والشهوات.

          إن اعتماد الإسلام على العقل ورفعه من شأنه دليل على خيرية الطبيعة الإنسانية في أصلها، باعتبار العقل عنصرا ذاتيا من مكوناتها، وهو أصل في التقدم. والإسلام كدين وتشريع جاء عونا وتوجيها للعقل لكي يستقيم تفكيرا.

          فالغضب مثلا، غريزة مركوزة في الفطرة، وهو أمر منهي عنه شرعا وعقلا. لكن النهي ليس لاستئصاله كغريزة، بل لتوجيهها لأغراض عليا وقيم [ ص: 139 ] سامية، حتى إذا تم تصريفها فيها أفضت إلى مصالح حيوية حقيقية معتبرة للفرد والأمة على السواء، فالحكمة المنشودة إذن هـي روح الفعل والغاية المقصودة منه، لا مجرد صورته المادية.

          وتفسـير ذلك، أن الغضب منهي عنه شرعا وعقـلا إذا كان للشيطان أو للباطل أو لأغراض غير إنسانية، أما الغضب انتصارا للحق وقهرا للباطل فهو مفروض، ولذا كان تصريف الغضب إلى هـذه الوجهة من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم [26] .

          وكذلك فإن ذم الشهوات، لا يعني تجاهلها وإنما يقصد به تصريفها في ما أبيح أو وجب شرعا وعقلا على الوجه الذي رسم، لا فيما حرم الله. وما يقال في الغضب والشهوات يقال أيضا في العصبية، فقد حاربها الإسلام. ( يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ... ومن قتل تحت راية عمية [27] ، يغضب للعصبية [28] أو يقاتل للعصبية، أو يدعو إلى العصبية، فقتلة جاهلية ) [29] .

          والعنصرية ليست إلا ضربا من العصبية، وهي أصل الشرور في العالم، كما هـو معلوم، غير أن الإسلام حارب العصبية إذا كانت للباطل على النحو الذي كانت عليه أحوال الجاهلية، فأما العصبية للحق فهو مطلب عزيز.

          نفهم من هـذا، أن الإنسان لا بد أن يخضع هـواه للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم بحيث يتحول هـواه عن موقفـه السابق، عن المعاكسة والمعاندة، إلى التحبيذ والتأييد؛ لا بد أن يكون منسجما مع أصل الفطرة الإنسانية، وإلا لم يكن الإسلام إذن دين الفطرة كما هـو ثابت. [ ص: 140 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية