الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثالث: ضرورة رقابة الجماعات

          من الصعب وجود الدليل العملي على أنه قد قامت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم جمعيات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لضمان حسن سير المجتمع الإنساني باعتبار أن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عهد تسود فيه الشرعية بأوضح معانيها, إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم هـو الذي يتلقى الوحي عن ربه وبذلك فهو مصدر التشريع، وإلي جانب ذلك كان هـو رأس السلطة الحاكمة وبذلك لم يكن من المتصور أن تقوم رقابة على الشرعية من أي فرد أو جماعة في الأمة الإسلامية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم [1] .

          فليس هـناك تفرقة في النظام الإسـلامي بين ما هـو من شئون الدين وما يعتبر من شئون السياسة والقانون والاجتماع. ذلك أن السلطة الدينية أخذت شكل الدولة السياسية منذ هـجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

          إلا أن هـناك بعض الأحاديث التي تشير إلى وجوب وجود مثل هـذه الجماعات: ( ... واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، وعلى لزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم [ ص: 186 ] تحيط من ورائهم ) [2] ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) [3] .

          وقد اتفق العلماء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ومن الواضح أنه ليس المراد من الحديثين قيام كل المسلمين بهذا الواجب، بل المراد إيجاد الجماعة التي تتولى هـذا الشأن، فالأمر الإلهي مسلط على إقامة الجماعة وليس على الأفراد العاديين.

          ولقد كانت المناقشـات التي قامت في سقيفة بني ساعدة [4] بما جاء فيها من حجج من النصوص النبوية دليلا قاطعا على وجود التجمعات السياسية في الدولة الإسلامية.. لكن ما هـو دور هـذه الجماعات لضمان القيام بما أوجب الشرع من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟

          تتولى هـذه الجماعات الإسلامية التأكد من حسن تطبيق الراعي والرعية للشرع. ومن الواضح أن الهدف الذي من أجله طلب الشارع قيام هـذه الجماعات الإسلامية لا يتحقق إلا بأداء هـذه الجماعات لأعمال سياسية، أهمها أمران:

          الأول: مناصحة الحكام ومحاسبتهم، للتأكد من التزامهم بأحكام الإسلام. [ ص: 187 ]

          الثاني: القيام بمهام النصيحة لأفراد المسلمين وعامتهم، تجنبا لانحرافهم عن تطبيق أحكام الشرع.

          وقد وردت العديد من الأدلة المؤكدة أهمية هـذين المعطيين لضمان حسن السير ورعاية مصالح الجميع، منها: حديث تميم الداري، رضي الله عنه ، أن ( النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ».. قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [5] .

          وقد جعل الإسلام كذلك محاسبة الحاكم من أفضل درجات الجهاد. فعن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) [6] .

          أما الشق الثاني من عمل الجماعات في المجتمع فيتعلق بنصح المسلمين وتنبيههم إلى ضرورة التمسك بالشرع، والعمل على تثقيفهم ونشر الأفكار التي تعالج شئون الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينهم، بهدف النهوض بهم لتحمل مسئولية الخلافة في الأرض وعمارة الكون.

          وهكذا، إذا ما نظرنا إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدناها حافلة بالوقائع التي تثبت أنه قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمناصحة بنفسه، ينصح المسـلمين وغيرهم بضـرورة التمسك بالشرع. ( عن أبي هـريرة، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، [ ص: 188 ] فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هـذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله.. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس.. من غش فليس مني ) [7] .

          وحينما فتح الله عليه مكة ودخل البيت، جعل يطعن الأصنام بقوسه أثناء طوافه. ( فعن عبد الله، رضي الله عنه ، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاث مائة وسـتون نصبا، فجعل يطعنها بعود كان بيده، ويقول: ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) (الإسراء:81) ، ( جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) (سبأ:49 ) [8] .

          ومما سبق يظهر جليا أهمية الجماعة السياسية، كما يتضح لنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس منحصرا في إطار المسلكيات الفردية للناس العاديين، بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هـو في الأساس عملية تصحيحية وردعية لأي حاكم تحدثه نفسه بظلم الناس أو ببخسهم أشياءهم أو هـضمهم حقوقهم. [ ص: 189 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية