الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثاني

إدارة الأزمات في المصادر التراثية

المطلب الأول

نماذج إدارة الأزمة في السنة النبوية

1- غزوة الأحزاب والمبادئ الإدارية

غزوة الأحزاب مظهر من مظاهر أزمة تناولها القرآن الكريم مبينا آثارها على نفوس من تعرض لها بقوله تعالى: ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. ) (الأحزاب : 10-11)

وقد جمعت الغزوة بين عدة عوامل للقلق، فهي من جهة تضم عدوانا ثلاثيا خارجيا يجمع قوى الكفر في الجزيرة ممثلة بقريش واليهود والأعراب ممثلين بغطفان، ومن جهة ثانية حدثت ثغرة داخلية إذ تآمرت جماعة من داخل المدينة مع الأعداء وهم يهود بني قريظة.. وقد واجه المسلمون الأزمة بأمور منها: [ ص: 123 ] أ- الإفادة من قدرات المجموع، وتهيئة الأجواء، ليعطي أفراد الفريق كلهم ما عندهم:

ويتضح هذا في الإفادة من خبرة سلمـان الفارسي [1] ، ومن دخول نعيم بن مسعود الغطفاني الإسلام لما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم المساعدة قال له: خذل عنا يا نعيم [2] ، روى ابن إسحق: أن نعيم بن مسعود، وهو من غطفان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسـلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسـوا كأنتم، والبلد بلدكم، فيه أمـوالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي. [ ص: 124 ] ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم، فأرسل إليهم: أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمهتم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله (، أن أرسل أبو سفيان ابن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر فاغـدوا للقتال حتى نناجز محمـدا، ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نفعل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة [ ص: 125 ] لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه، فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله إن الذين حدثكم نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة، حين انتهت الرسـل إليهم بـهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم [3] .

ب- تحديد الهدف، والموازنة الموضوعية بين البدائل المتاحة، واختيار أقربها إلى حل الأزمة وتحقيق مصلحة العمل والمنظمة فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية:

وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما جمع أصحابه في غزوة الخندق يأخذ رأيهم, فعرضوا عليه آراءهم وكان من بين الآراء رأي سلمان الفارسي، رضي الله عنه، الذي أشار إلى حفر الخندق فأخذ برأيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه [ ص: 126 ] الأقرب للصواب، جاء في مختصر السيرة النبوية: «فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون، وعمل فيه بنفسه» [4] .

وهذه مهارة يحتاج إليها الإداري لينتفع بخبرات جميع الفريق بحيث تتجمع عنده الخبرات وتتراكم ويتمكن بهذا التراكم أن ينهض بهم، فالأمم تنهض بالإدارة أكثر من نهضتها بوفرة الموارد، وقد تكون الخبرات موجودة في مؤسسة ما ولكن بسبب انعدام الإدارة لا يستفاد منها، وأحيانا تتحول إلى عنصر معيق بسبب عدم التنظيم والتنسيق بين الجهود.

2- غزوة حنين

ووقعت بعد فتـح مكة، وكانت قبيلة هوازن جمعت رجـالها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي حنين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، واستعمل عتاب بن أسيد، رضي الله عنه، على مكة.

فلما استقبلوا وادي حنين انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف في عماية الصبح، قال جابر: وكانوا قد سبقونا إليه فكمنوا في شعابه ومضايقه [ ص: 127 ] قد تهيئوا، فو الله ما راعنا إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، فانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: أيها الناس، هلموا إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. وبقي معه نفر من المهاجرين وأهل بيته فاجتلد الناس، فو الله ما رجعت الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى عند رسول الله، وكانوا حين رأوا كثرتهم قالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، فوقع بهم ما وقع ابتلاء من الله لقولهم ذلك. قال العباس: إني لمع رسول الله -وكنت امرءا جسيما شديد الصوت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى من الناس: إلي أيهـا الناس، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطـلب، فلم أر الناس يلـوون على شيء، فقال: أي عبـاس، اهتف بأصحـاب السمرة؛ فناديت يا أصحـاب الشجرة [5] ، يا أصحاب سورة البقرة، فكان الرجل يريد أن يرد بعيره فلا يقدر فيأخذ سلاحه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت فأتوا من كل ناحية: لبيك لبيك، حتى إذا اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا؛ فكانت الدعـوة أولا: يا للأنصار يا للأنصار، ثم خلصت الدعوة: يا لبني الحارث بن الخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، وانهزم المشركون وأتوا الطائف» [6] .

ويستفاد من الغزوة عدد من الدروس في إدارة الأزمة: [ ص: 128 ]

أ- الثبات وعدم الاضطراب

كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين إذ انسحب جمع من الجيش المسلم أمام خطة هوازن، ففي بداية المعركة حصل للمسلمين غنائم فانطلقوا نحوها، وكانت هوزان قد جمعت مهرة الرماة «ما يكاد يسقط لهم سهم فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون» [7] ، ففر الصحابة من هول المفاجأة، وشدة النبل وهنا صمد النبي صلى الله عليه وسلم واستطاع بثباته أن يعيد تجميع جيشه وفريق عمله لمواجهة الأزمة.. «عن أبي إسحاق قال: ( سـأل رجـل البراء رضي الله عنه، فقال: يا أبا عمارة: أوليتم يوم حنين؟ قـال البراء، وأنا أسمع: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يول يومئذ، كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته، فلما غشيه المشركون نـزل فجعل يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، قال: فما رئي من الناس يومئذ أشد منه ) [8] .

وفي ( رواية أخرى عند البخاري: فنـزل واستنصر ثم قال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، ثم صف أصحابه ) [9] ، وتلاحظ من هذه الرواية أهمية ثبات القائد، وأن مصدر الثبات اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء والاعتماد عليه، وكيف انعكس هذا الثبات على تجميع أصحابه بعد أن تشتتوا وكادوا يخسرون المعركة. [ ص: 129 ]

وذكرت الروايات عدة أسباب للهزيمة بادئ الأمر، منها ما ذكرناه من انشغال الصحابة بجمع الغنائم، وهو ما ذكره البخاري، ومنها أن الطريق التي ساروا فيها كانت واديا ضيقا معتما وواجهتـم خيل القـوم ففروا،كما نقل ابن حجر: «وذكر ابن إسحاق من حديث جابر وغيره في سبب انكشافهم أمرا آخر وهو أن مالك بن عوف سبق بهم إلى حنين فأعدوا وتهيؤا في مضايق الوادي وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين» [10] ، وأيا ما كان السبب فلا يجوز في مبادئ إدارة الأزمة أن نفسر الهزيمة بأننا لم نكن نتوقع أن يهاجم العدو بهذه الشراسة! فهذا تسبيب مرفوض في الفكر الإداري، والحل العلمي أن تواجه المشكلة لا أن تلقي الخطأ على الآخرين، وأن تكون القيادة تتمتع بالكفاءة وشجاعة القلب، وفي هذا المعني يقول ابن تيمية: «تجد الرجل الذي يقتل كثيرا إذا خاف أصابه الجبن وانخلع قلبه، وتجد الرجل الثابت القلب الذي لم يقتل بيديه كثيرا ثابتا في المخاوف، مقداما على المكاره، وهذه الخصلة، أي الشجاعة، يحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى، فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتا أقدم وثبت ولم ينهزم فقاتل معه أعوانه، وإذا كان جبانا ضعيف القلب ذل ولم يقدم ولم يثبت ولو كان قوي البدن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 130 ] أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب» [11] ، فالمرؤوسين بحاجة لأن يروا أمامهم قدوة، والقائد يمتاز بأنه يشيع الطمأنينة بين الأفراد، وهذا ما نلحظه في موقف النبي صلى الله عليه وسلم في وسط المعركة ينادي بصوته: ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) .

ب- تشجيع الفريق والرفع من معنويات العاملين وقت الأزمات

مما يدفعهم للعمل بحماس وحيوية، وهذا ما نلحظه في نداء النبي صلى الله عليه وسلم: أين أهل بيعة الشجرة، أين أهل سورة البقرة، تذكيرا لهم بمواقف ثبتوا فيها ونجحوا في اجتياز الأزمة.

ويذكر أهل السيرة أن الصحابة لما سمعوا هذا النداء عادوا كما تعود المرضع لصغيرها، وهكذا يتضح أن هذه المهارة التي امتلكها النبي صلى الله عليه وسلم كانت فاعلة ومكنته من مواجهة الأزمة وتحويل الهزيمة إلى نصر.

ج- مكافأة المحسن

ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة أعلن عن مكافأة لمن ثبت وصمد ( فقال: من قتل قتيلا فله سلبه ) [12] ، وقد اختلف الفقهاء في تفسير هذا الحديث هل هو حكم عام أم هو تدبير إداري مرتبط بفكرة المكافأة، فذهب الإمام الشافعي وأحمد إلى أنه حكم عام، وقال مالك وأبو حنيفة: إنه مبني على فكرة المكافأة. [ ص: 131 ]

ومن النصوص الفقهية في موضع التشجيع قولهم في بيان ما يلزم الإمام: «ويرفق بجيشـه في السير، ويعـد لهـم الزاد، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم الظفر» [13] .

د- معـالجة الرسول صلى الله عليه وسلم للأزمة الناشئة بعد توزيع الغنائم في أعقاب حنين

بعد انتصار المسلمين في معركة حنين نال المسلمون غنائم وفيرة تطلعت لها مطامع الناس، قال ابن إسحاق: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا من أشراف الناس يتألفهم ويتألف بـهم قومهـم، فأعطى أبا سفيـان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير، قال ابن هشام: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، فوجـد هذا الحي من الأنصـار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.

هـ- المفاتحة والمعاتبة مصدر للتزويد بالمعلومات

قال ابن إسحق: فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمـت في قومك، وأعطيت عطـايا عظاما في قبائل العرب، [ ص: 132 ] ولـم يكن في هذا الحي من الأنصـار شيء! قال: ( فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قـال: يا رسـول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ) .

وتلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا يعمل على تحليل هذه المعلومات، ومتابعتها ومعرفة حقيقتها، فهو يريد أن يعرف موقف سعد بن عبادة، ليعرف القوى المحركة للفكرة، وما حجم التيار المعترض، ثم العمل على إحباط الأزمة واتقاء نتائجها.

( قـال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحـظيرة، فلما اجتمعوا أتاه سعـد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبمـاذا نجيبك يا رسول الله؟ ولله ولرسـوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريـدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك، أوجـدتم في أنفسـكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس [ ص: 133 ] بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.. قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم؛ وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقنا ) [14] .

لاحظ كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم اعتراض الأنصار وحاورهم ولم يرض بسكوتهم أول مرة، فالنفوس تهاب الزعيم، ولهذا يقولون بأدب: لله ورسوله المن والفضل، وكان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستند إلى سكوتهم المشوب بالخجل ليبرر تصرفه بالغنائم، لكنه صلى الله عليه وسلم يحاورهم ويقر لهم بالفضل ليكون سكوتهم عن رضا وارتياح وتكون العلاقة بين القيادة والرعية مستندة إلى الرضا لا إلى الخوف أو الخجل.

فوجود مصدر للمعلومات، متمثل بمفهوم المعاتبة إذ جاء سعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يقول قومه، ساعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتعرف على الأزمة في بداياتها، ويعرف مكونات الأزمة، ويفهم القوى المحركة لهـا، وبسؤاله: أنت ماذا تقول: «فأين أنت من ذلك يا سعد»؟ أدرك صلى الله عليه وسلم هل الاعتراض هو على مستوى الأنصار أم أنه تيار في داخلهم. [ ص: 134 ]

وكان محرك الأزمة شعورهم بالحرمان من العطاء، وتمت المعالجة عن طريق التعويض بالمكافـأة المعنوية، ثم بشـرح فكرة الهدف لفريق العمل، إذ خاطبهـم النبي صلى الله عليه وسلم قائـلا: ( أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم )، فغاية العطـاء لترغيب القوم بالإسـلام، والرسـول صلى الله عليه وسلم يستند في هذا إلى ما عرف من ثبات الأنصار في الإسلام؛ وهذا نوع من المكافأة المعنوية، التي تعوض المكافأة وتزيد عليها في التأثير، ثـم أكرمهـم إكراما كبيرا بقوله: ( أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم ) ؟، ثم دعا لهم ( اللهم ارحم الأنصار ) ، واعترف بفضلهم: ( أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك ) ؛ فشرح الأهداف لفريق الأزمة، مع التقدير المعنوي والمكافأة المعنوية، كل ذلك مكن النبي صلى الله عليه وسلم من مواجهة الأزمة في بداياتها.

فلو كان سعد صلى الله عليه وسلم، يعرف أن موقف القيادة المفترض الصدود لم يكن ليذهب ليخبره صلى الله عليه وسلم بمشاعر قومه؛ فلا بد أن تشعر القيادة فريق العمل أن صدرها منفتح للتغيير، وأنها تحسن الإصغاء، وأن تواجه بوادر الأزمة بالمصارحة والوضوح. [ ص: 135 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية