الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدارة الأزمة (مقاربة التراث .. والآخر)

الأستاذ الدكتور / عبد الله إبراهيم الكيلاني

المبدأ الثاني: تحديد المشكلة والتخطيط للتعامل مع الأزمة وتحليل البدائل

وهو إجراء عملي أثناء التعامل مع الأزمة، فلا بد من دراسة الواقع وتحليل البدائل.

يخاطب الجويني الحاكم بأن عنصر الخطر المستكن متمثل في أهل البدع، ذلك أن بناءهم الثقافي مغاير لثقافة الأمة، وبناءهم الفكري يسوغ الخروج المسلح على الحاكم، ويستبيحون القتل، وبالتالي فوجود أهل البدع في مجتمع [ ص: 149 ] ما يمثل أزمة مستكنة لابد أن يتعامل معها الأمام بما يليق بها «وأعتقد ذلك شوفه الأعظم وأمره الأهم وشغله الأطم»؛ وينبغي أن يفهم كلام الجويني في ضوء خبرته التاريخية، فقد عاش في زمن فتنة طائفية ومذهبية.

ومشكلة أهل البدع التي يتكلم عنها هي مشكلة التكفيريين، الذين يكفرون المجتمع ويستبيحـون قتل مخالفيهم، فوجودهم في أي مجتمع هو أزمة مستكنة تنتظر لحظة ضعف لتخرقها، ولذا ينبغي التخطيط الجيد للتعامل مع الأزمة.

ويقدم الجويني عدة معالجات تدخل في باب تحليل البدائل:

الحالة الأولى: الحل في حال قوة الدولة وضعفهم: «فأما إذا شاعت الأهواء وذاعت وتفاقم الأمر واستمرت المذاهب الزائغة واشتدت المطالب الباطلة فإن استمكن الإمام من منعهم، لم يأل في منعهم جهدا، ولم يغادر في ذلك قصدا واعتقد ذلك شوفه الأعظـم وأمره الأهم وشغـله الأطم فإن الدين أحرى بالرعاية وأولى بالكلاية وأخلق بالعناية وأجدر بالوقاية وأليق بالحماية».

الحالة الثانية: لهم قوة ويحتاج الحـل إلى استخدام القوة الخشنة «فإن لم يتمكن من دفعهم إلا بقتال واعتناق أهوال»، فرأى الجويني جواز ذلك وأقام عليه الدليل من القياس الأولي على محاربة مانعي الزكاة، وفي هذا يقول: «وإذا كان الإمـام يجر عساكر الإسلام إلى البغاة ومانعي الزكاة وأثر امتنـاعهم عن الطـاعة والخروج عن ربقة الجماعة آل إلى فرع [ ص: 150 ] الدين، فما يؤول إلى أصل الدين أولى باعتناء إمام المسلمين»، فهذا إن كان الإمام مقتدرا على النابغين وصد الممتنعين المبتدعين.

الحالة الثالثة: تفوقهم على الإمام عسكريا: «وإن تفاقم الأمر وفات استدراكه الإطاقة، وعسرت مقاومة مصادمة ذوي البدع والأهواء، وغلب على الظن أن مسالمتهم ومتاركتهم وتقريرهـم على مذاهبهم وجه الرأي، ولو جارهم لتألبوا وتأشبوا ونابذوا الإمام مكادحين مكافحين، وسلوا أيديهم عن الطاعة، ولخرج تدارك الأمور عن الطوق والاستطاعة، وقد يتداعى الأمر إلى تعطيل الثغور في الديار واستجراء الكفار»، وهنا يقترح الجويني التعامل مع الأزمة على النحو الآتي:

أ- أن لا يستخدم القوة الخشنة «حتى لا يظهر ما يخرق حجاب الهيبة فيتجرأون على الدولة إذا كشفوا ضعفها.

ب- أن يستخدم حرب العقول والإرادات والحرب المعلوماتية.

ج- إبعاد القيادات.

د- مراقبة الوقت المناسب للتدخل.

هـ- توزيعهم في المناطق حتى لا يكونوا أغلبية في منطقة.

و- استخدام الحيلة بوجود فرصة مستكنة للخروج من الأزمة، فالمرء يعجز لا محالة، أي أن الحيلة لا تنتهي، وفي هذا المعني يقول: «وتربص بهم الدوائر، واضطرهم بالرأي الثاقب إلى أضيق المعابر والمصائر، وأتاهم من حيث لا يحتسبون، وحرص أن يستأصل رؤوسهم، ويجتث كبراءهم، ويقطع [ ص: 151 ] بلطف الرأي عددهم ويبدد في الأقطار المتباينة عددهم، ويحسم عنهم على حسب الإمكان مددهم، ويعمل بمغمضات الفكر فيهم سبل الإيالة، والمرء يعجز لا محالة، وهذا هين إذا لم يبدوا أشراسا ولم ينصبوا للخروج على الإمام رأسا، فإذا وهت قوتهم ووهنت منتهم صال عليهم صولة تكفي شرهم، وسطا بهم سطوة يمحق ضرهم.. وإن انتهى الأمر إلى اتفاقهم على الإمام وخروجهم عن الطاعة فنذكر ذلك متصلا بباب السياسات عند تفصيلنا صفوف القتال، وعلى الله الاتكال»، فاللجوء إلى الله تعالى أولا وآخرا، أساس مواجهة الأزمة.

وهذا أنموذج لمفهوم التنبوء وتحديد المشكلة، ثم تحليل البدائل المتاحة، واختيار البديل الأنسب، واستخدام التدرج واللطف والمواربة والمباغتة.

التالي السابق


الخدمات العلمية