الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أنواع الإشارات التحذيرية

تقسم الإشـارات التحـذيرية، باعتبار الصلة الزمنية بينها وبين الأزمة، إلى:

أ- إشارات مبكرة

ففي عمل المؤسسـات الاقتصـادية يعد نقص السيولـة النقدية إشـارة تحـذيرية مبكرة، فإذا لاحظ المسؤول في المؤسسة أن هناك نقصا في السيولة النقدية بحيث تضطر المؤسسة إلى تأخير الرواتب والديون المستحقة فهذا إشارة مبكرة لوجود خلل ما في النظام، وكذا انخفاض الأرباح عن النسبة المعتادة، فإنه يشير إلى وجود بوادر خلل تستدعي المراجعة والتصويب. [ ص: 78 ] كما أن اعتماد المؤسسات المالية على ما يعرف بالمشتقات المالية «derivatives» وبيوع الخيار «Option» [1] ، هو إشارة مبكرة لأزمة؛ لأن هذه المشتقات تقوم مخالفة للنظام الذي قام عليه أساس التبادل المالي من يوم أن اعتمد الإنسان العملة النقدية بدلا من المقايضة لتكون في مقابل الأوراق المالية أعيان حقيقية، وقد كان من أهم أسباب الأزمة المالية التي عرفها العالم عام 2008م هو اعتماد الأسواق على المشتقات المالية حتى بلغت الرهونات والسندات على عقار واحد ما يقارب ثلاثين ضعفا من قيمته الأصلية.

ومن الإشارات التحذيرية المبكرة زيادة معدلات غياب المرؤوسين، فهو يشير إلى خلل في عمل المؤسسة، يستدعي من الإدارة تصويبه.

ب- إشارة متوسطة

ومثالها في المؤسسات المالية استخدام القروض لسداد الأجور والمرتبات.

وفي الجانب الإداري يمكن اعتبار غياب الهيكل الإداري وانشغال القادة بالتجارة بدلا من العمل العسكري إشارات متوسطة لقرب وقوع الأزمة، ومن هذا الباب قولهم: «ويمنع الجيش من الفساد والتشاغل بالتجارة، ويشاور ذوي الرأي فيهم، ولا يميل مع أقاربه أو أهل مذهبه على غيرهم، [ ص: 79 ] ويعرف عليهم العرفاء، ويعقد لهم الألوية والرايات بأي لون شاء، ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به في الحرب» [2] . وفي النص بيان لعدد من الإشارات الدالة على الأزمة مثل التشاغل بالتجارة من قبل الإداريين، عدم المشاورة، والميل نحو الأقارب وغياب العدالة.

ج- إشارات متقدمة

ومثالها في المؤسسات المالية الاعتماد كليا على القروض لسداد الأجور والمرتبات، كمؤسسة تقوم ببيع أصولها الثابتة من عقار لسداد دين فتتعثر في السداد فتأخذ قرضا جديدا لسداد الأول، فهذه إشارات تدل على أن المؤسسة مقبلة على أزمة قادمة وفي وقت قريب إن لم تتدارك نفسها بإدارة حكيمة.

ومن أمثلة الإشارات المتقدمة: عدم القدرة على إدارة الاجتماعات، وظهور الفوضى في أغلب القرارات، والاستماع للقيل والقال، وتأخر سداد أجور العمال إلى أجل غير محدود [3] .

ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء للإشارات المتقدمة عدم تحصين الثغور، ولهذا ينبغي على الدولة «تحصين الثغـور بالعـدة المانعة والقوة الدافعـة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما أو يسفكون بها دما معصوما» [4] . [ ص: 80 ]

ونرى في النص السابق إدراكا واضحا لارتباط الخلل بأزمة قادمة، ويعد الجويني تعطيل الجهاد إشارة متقدمة إذ يقول: «وما أقرب قعودنا عنهم من قدومهم إلينا»، وهذا مبني على واقع العلاقات الدولية في زمانه.

وإذا تم رصد هذه الإشارات فيمكن للإدارة الحكيمة توقي الأزمة بتأخير أضرارها وسد ذرائعها.

ومن نماذج الإشارات التحذيرية، التي سبقت الفتن في التراث الإسلامي: قصة مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حيث يلحظ الدارس للسيرة وجود إشارات تحذيرية لم تعط العناية التي تستحقها، مثل ما حصل مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مع أبي لؤلؤة المجوسي، فيروي ابن الأثـير عدة أحداث كانت تستدعي الحذر من أبي لؤلؤة، من ذلك: «لما قدم سبي نهـاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة، لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال له: أكل عمر كبدي، وكان أبو لؤلؤة من نهاوند فأسرته الروم أيام فارس وأسره المسلمون من الروم بعد فنسب إلى حيث سبي» [5] ، وكذا حين قال كلمة أدرك عمر أنه يتوعده بها إذ "خرج عمر بن الخطـاب يطـوف يوما في السـوق فلقيه أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانيا، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجا كثيرا، قال: وكم خراجك؟ قال: [ ص: 81 ] درهمان كل يوم، قال: «وإيش» صناعتك؟ قال: نجار نقـاش حداد، قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمـال قد بلغـني أنك تقول لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت، قال: نعم، قال: فاعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن ثم انصرف" [6] ، ولا ريب أن عدم اتخاذ إجراء بحق أبي لؤلؤة لمجرد الظن هو مما تقتضيه حقوق الإنسان، وهو ما التزم به عمر، رضي الله عنه، ولكن الإجراء المطلوب ليس عقوبة قانونية، وإنمـا احتياط وقائي. وقد أدرك عمر، رضي الله عنه، ما في عبارة أبي لؤلؤة من تهديد مبطن، ولكنه لم يتخذ إجراء وقائيا.

ويعتمد الكشف عن الإشارات على وجود مصدر للمعلومات داخل المؤسسة يقوم بعملية الرصد والتحليل والتنبؤ والتقاط نقاط الضعف، والتنبيه إليها، ثم العمل على توقيها.. فإذا لاحظ القائد وجود ثغرة من غير حراسة عسكرية فيجب عليه تحصينها؛ لأن العـدو يدخل من نقـاط الضعف؛ وإذا علم بوجود مرجفين ومخذلين داخل الجيش أخرجهم؛ لأنهم يمثلون نقاط ضعف؛ يمكن أن تلج منها الأزمة إلى مؤسساتنا.

ومصادر المعلومات متنوعة، منها ما هو مقبول علميا ومطلوب حين يكون على شكل دراسات علمية، ومنها ما هو مستقبح وله آثار سلبية كالتجسس والنميمة، ويعد إداريا غير مقبول، وهو من عيوب الإدارة. [ ص: 82 ]

ويدخل التنبؤ في علم حديث جدا يسمى علم المستقبليات ««Futurology وهو يبحث التغيرات المتوقع حدوثها في مقبل الأيام، وهو علم لا يقوم على التخمين بل على الدراسات العلمية والإحصائية والملاحظة والتحليل [7] .

والدارس للسيرة يلحظ أن الصحابة الكرام كانوا يدربون أنفسهم على التنبؤ بالأحداث المستقبلية، ومن ذلك ما رواه البخاري ( عن حذيفة ، رضي الله عنه، قال: كنا جلوسا عند عمر ، رضي الله عنه، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا، كما قاله، قال: إنك عليه أو عليها لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال: ليس هذا أريد ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر، قال: إذا لا يغلق أبدا ) [8] .

فسؤال عمر، رضي الله عنه، عمن سمع رسول الله يحدث عن الفتن، ثم سؤاله لحذيفة: أيفتح الباب أم يكسر، تنبيه إلى نوعين من الأزمات، في ظل أبواب: أزمة يفتح فيها الباب ثم يغلق، أي يمكن احتواء آثار الأزمة، وأزمة يكسر فيها الباب وعندها لا يعود من السهل إغلاقه.

وتعد القوانين المنظمة للتعبير عن الاحتجاج والاعتراض والرفض بشكل سلمي أحد أشكال الأبواب التي توصد في وجه الفتنة والأزمة، وهي التي نبه [ ص: 83 ] إليها عمر، كما تعد المؤسسات التي تتولى التوسط لفض النـزاع ومنع تطوره من هذه الأبواب التي يسيطر بها على الأزمة ويمنع تفاقمها.

ومن أمثلة إشارات الإنذار المبكر: عدم تفويض السلطة، فاحتكار السلطة بيد شخص واحد هو إشارة مبكرة لأزمة قادمة، وكذا التفويض بلا رقابة، وزيادة معدلات الحوادث بين الرئيس والمرؤوسين، وزيادة معدل غياب المرؤوسين، وزيادة نسبة الاستنكاف عن الوظيفة، زيادة نسبة طالبي الإجازات، زيادة شكاوى العملاء فهذه إشارات تكشف عن احتمال وجود أزمة على الطريق ينبغي العمل على تداركها [9] . إن مجرد حدوث المشاكل في العمل أمر متوقع بسبب اختلاف الناس ولكن زيادة المشاكل في قسم ما عن المعدل إشارة إلى وجود خلل ما، يستدعي من الإدارة أن تتنبه له بشكل مبكر.

التالي السابق


الخدمات العلمية