إسلام ويب - إدارة الأزمة (مقاربة التراث والآخر)

مقدمة

الحمد لله، الذي أعطى كل شي خلقه ثم هدى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد،

فإن البحث في إدارة الأزمة هو أحد الأساليب العلمية لمواجهة المآزق والفتن، وقد توفرت على دراسة هذا الموضوع أثناء إجازة التفرغ العلمي الممنوحة من الجامعة الأردنية، عام 2008م؛ وقد لحظت أن الفكر الإسلامي قد عرف هذا العلم، أو الفن، على الرغم من أن موضوعه يعتبر من الموضوعات والمفاهيم الإدارية الحديثة نسبيا، وهو فن إدارة الأزمات، بمعنى التعامل مع الأزمة على نحو يقلل أضرارها، ويحول المحنة إلى منحة، والبلاء إلى عطاء.

وشـواهد الفكرة وفيرة في التراث الإسلامي، من ذلك قول الشيخ عبد القادر الكيلاني، رحمه الله تعالى: «إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا... يا بني المصيبة ما جاءت لتهلك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك.. واعلم أنه [ ص: 25 ] لولا المصائب لبطر العبد وبغى وطغى فيحميه بها من ذلك ويطهره مما فيه، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، وكما قيل:

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم» ^[1] .

والنص السابق يحتوي على عدد من مفاهيم إدارة الأزمة، غير أن توظيف هذه المفاهيم لدى علمائنا انصرف جله إلى جانب الآداب وتهذيب النفس من أمراضها كالكبر والحسد، والأشر والبطر. ومقصود هذا البحث بيان ما تتضمنه القيم الإسلامية والاجتهادات الفقهية من مفاهيم إدارية للارتقاء بالعمل الإداري وتمكينه من مواجهة الأزمات.

وتعد القدرة على تطبيق هذا الفن من الحكمة ^[2] ، التي اشترطها الفقهاء في التصدي للولايات العامة، وهو مندرج تحت مفهوم «التدبير» ^[3] ، الذي تتولاه السياسة الشرعية باعتبارها تدبير الأمر بما يصلحه؛ ذلك أن امتلاك القدرة على إدارة الأزمة ضروري لبقاء المؤسسات في مواجهة الفتن، التي تموج كموج البحر، كما أن مواجهة الإدارة للأزمة هو الاختبار الحقيقي لكفاءة الإدارة. [ ص: 26 ]

والأزمة أحد التحديات المصيرية، التي تواجه الإدارة، فهي تضع المؤسسـة أمام مفرق طرق، ولعل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الله في بدر: ( "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه ) ^[4] ، ما يدل بوضوح على طبيعة الخطر الذي تحمله الأزمة، فهي تشكل تهديدا خطيرا لوجود الدعوة، وتضعها أمام احتمالين: إما الانطلاق بحيث لا تتوقف حركة الفتح حتى تصـل إلى مكة ثم تنطـلق خـارج الجزيرة إلى ما شاء الله، وإما الانكسار حتى لا يعبد الله تعالى في الأرض!

ورغم الأخطار التي نراها في الأزمة فإنها تحمل في داخلها عددا من الإيجابيات؛ منها أنها تعطي فرصـة للتغيير، وتهيئ الأجواء لظهور القادة، كما حصل مع المقداد، رضي الله عنه، يوم بدر ^[5] ، وتحفز أجهزة الإنذار المبكر، وتمكن من مواجهـة المشكلات الكامنة، وتعطي للإدارة قدرة تنافسية جديدة ^[6] . [ ص: 27 ]

وقد عـبر العرب في أمثالهـم عن الفوائـد الإيجابية للمصائب عموما -والأزمة نوع من المصائب- فقالوا في وصف شدة العظم وصلابته: «كأنه كسر ثم جبر» ^[7] ، فكأن العظم الذي كسر ثم جبر يعود أقوى مما كان عليه قبل الكسر، وكذا الحال مع المؤسسات حين تتمكن من اجتياز الأزمة تعود بقدرة تنافسية أقوى مما كانت عليه قبل الأزمة! وفي القرآن الكريم توجيه لهذا المعنى كما في قوله جل ذكره:

( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) (البقرة:216)،

ووظف القرآن هذا الرؤية القرآنية للتعامل مع المصائب والأزمات في التعامل مع المشاكل الزوجية بقوله سبحانه:

( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) (النساء:19).

ومهمة علم إدارة الأزمـة إرشاد الإدارات للاستفادة من إيجابيات الأزمة تحويلا للمحنـة إلى منحـة، فالمصيبة كير العبد ^[8] ، فإما أن يخرج ذهبا أو خبثا. [ ص: 28 ]

وفي القرآن الكريم والسيرة النبوية نماذج ناجحة لإدارة الأزمة، في بدر وأحد والأحزاب، نعرضها في هذا البحث، إن شاء الله تعالى.

وتحتاج إدارة الأزمة إلى امتلاك مهارة التفكير السنني، والتفكير التسخيري، الذي يأخذ بالسنن والأسباب ليواجه الأزمات، ولا ينتظر حدوث الخوارق والكرامات؛ ذلك أن الأزمة بحسب الرؤية الإسلامية لها قانونها، فهي من خلق الله تعالى ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) (طه:50)،

أي خـلق كل شيء لغاية، وأرشده للغاية من خلقه، والله تعالى يبتلي بالأزمات لنراجـع أنفسنا،

قال سبحانه: ( وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون ) (الزخرف:48)،

فمـن اهتدى لقانون التعامل مع الأزمـة، فراجع نفسـه، ولم يتكبر عن الحق، عرف كيف يحول المحنة إلى منحة.

ومعرفة القوانين لإدارة الأزمة يستلزم الأخذ بالأسس، التي اعتمدت عليها الإدارة الحديثة القائمة على الملاحظة واكتشاف السنن الاجتماعية، التي أودعها الله في خلقه, مع تفعيل البعد الديني، الذي يمكن الإنسان من الصمود ومواجهة الأزمة بيقين أن مع العسر يسرا، وهذا ما يستدعي دراسة إدارة الأزمات في المصادر التراثية لنرى كيف جمعت بين الإيمان والملاحظة باعتبارهما طريقين متلازمين للحقيقة لا ينفك أحدهما عن الآخر. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في تفعيل الأزمات والاستفادة منها، وتحويل الموقف السلبـي إلى إيجـابي وذلك بقوة الإيمان والعزم والتوكل على الله, [ ص: 29 ] مع الإفادة من الخـبرات الاجتماعية، كمـا في خبرة سـلمان الفارسي، رضي الله عنه، يوم الأحزاب.

فالثقة بالله تعالى مكنت الصحابة من الصمود في معركة كانت في حقيقتها معركة إرادة أكثر منها معركة مواجهة، والإفادة من خبرة سلمان الفارسي، رضي الله عنه، في حفر الخندق كانت ذات أثر فاعل في تمكين المسلمين من الصمود، وهذا المثال يكشف بوضـوح عن أهمية بناء أنموذج إداري متـكامل لا يعتمد على الإيمان وحده؛ لأنه نوع من التواكل، ولا يضيع الإيمان ويفرط فيه لحاجة النفس للشعور بمدد خالقها لتتمكن من مواجهة أزمة تبدو فوق قدرتها، وغزوة الأحزاب أنموذج لذلك: ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا ) (الأحزاب:10-15)، وتلحظ من مواقف الناس، كما ذكرت الآية، أن مرض القلوب كان أخطر اختراق في مواجهة الأزمة، والقلوب لا تطمئن ولا تقر إلا بذكر الله تعالى. [ ص: 30 ]

وعليه، فإن اهتمام الإداري بالبناء الإيماني والقيمي للموظفين في المؤسسة من شأنه أن يرفع من إنتاجية المؤسسة، ويمكنها من المحافظة على الممتلكات وزيادة الأرباح ومواجهة الأزمات بثقة وطمأنينة، ولعل من المناسب أن يخصص الإداري دورات تثقيفية إيمانية لموظفيه، وأن يجعل في المؤسسة مكانا لائقا للصلاة فيه؛ لأن هذه اللفتات الإيمانية مهمة لفاعلية العمل بشرط إدارة العمل على نحو علمي.

وهذا العلم حديث نسبيا، يعتمد التجربة والملاحظة و«الأخذ بشروط السياسة الممازجة لشروط الدين» ^[9] والإفادة من خبرات الأمم، كما قلت سابقا، ومن القصص المعبرة في موضوع إدارة الأزمة قصة «أرميس هنري شيكلتون» مكتشف القارة القطبية الجنوبية عام 1914م، وهي من القصص الشهيرة في إدارة الأزمات في التاريخ.

فقد أبحر شيكلتون بسفينته متوجها نحو القارة القطبية على أمل أن يتمكن من عبور القـارة سيرا على الأقدام، ولم يتمكن من الوصول إلى البر إذ اصطدمت سفينته بالثلج وعلقت به، وبقي هو وطاقمه على هذا الحال لعدة شهور، ثم حدثت الأزمة الثانية حين غرقت السفينة تاركة شيكلتون وطاقمـه المكون من 27 فردا على بعد 1200 ميل من الحضارة على جليد طـاف على سطـح الماء ولا يوجـد معهم سوى قدر ضئيل جدا [ ص: 31 ] من الإمـدادات.. وتمكن من إنقـاذ طاقمه واللجوء بـهم إلى جزيرة قريبة باستخدام قوارب النجاة، وعلى الجزيرة قام شيكلتون بتقسيم طاقمه، حيث ترك عـددا من أفراد الطـاقم على هذه الجزيرة تاركا لهم قدرا محدودا من الإمدادات وتوجه بباقي أفراد الطاقم على أحد قوارب النجاة إلى محطة لصيد الحيتان على بعد 800 ميل في ساوث جورجيا، وتمكن شيكلتون بالفعـل من إنقاذ طاقمـه، ولم يفقد أيا من أفراده، على الرغم من الصعاب كافة، التي واجهته والتي مثلت تحديا رئيسا لاحتمالات نجاته هو ذاته ^[10] .

ومما ساعد شيكلتون على اجتياز الأزمة إنه لم يقرر لطاقمه ما الذي يتعين عليهم القيام به، بل جعلهم جميعا أطرافا في عمـلية اتخـاذ القرار، وظل معنيا بشكل شخصي بكافة معطيات الأزمة، فصنع منهم فريقا وتابع تنفيذ القرارات.

إن القدرة على حشد وتعبئة الموارد المتاحة، مع تعظيم الشعور المشترك بين أعضاء المجموعة وبالأخطار، التي تطرحها الأزمة، سواء أكانوا ركاب سفينة، أم عاملين في مؤسسة، أم أفرادا في مجتمع، وشحذ واستنفار الطاقات [ ص: 32 ] من أجل مواجهة الأزمة والحفاظ على الحياة, أحد الخطوات الفاعلة في إدارة الأزمة بنجاح، وهذا ما نجده في قصة شيكلتون.. ومما ساعد شيكلتون على النجاح أنه كان واثقا من قدرة فريقه على النجاح بشكل جماعي، بما شكل مصدر إلهام لكل فرد من أفراد طـاقمه للقيـام بأشيـاء كانوا يتصورون أنها ليست في الإمكان.

وتعـد هذه الخطوات الثلاث:

- الثقة بالقدرات،

- وتكوين فريق عمل،

- وأن تكون القيادة مصدر إلهـام،

ذات أثر فاعل في تمكين المؤسسات من اجتياز ما يمر بها من أزمات.. ولعل هذا يساعدنا على الكشف عن الحكمة مما بثه القرآن فينا من معان تبشر بأن مع العسر يسرا، حتى قال ابن عباس، رضي الله عنهما: «لا يغلب عسر يسرين». إن هذه التوجيهات الإيمانية في غاية الأهمية لتمكين كل مؤسسة ودولة من اجتياز ما يمكن أن تمر به من أزمات، وذلك بأن تبني فكرها على أن في داخل الأزمة فرصة للنجاة لمن صبر، وتدبر، واستعان بالله، فمن صبر ظفر، وبهذا ندرك أن المفاهيم الإيمانية ليست مفاهيم ميتافيزيقية، لا صلة لها بالواقع المعيش، إنما هي القاعدة الفكرية والقيمية، التي تبنى على أساسها المؤسسات الناجحة. [ ص: 33 ]

وعلى الرغم من صعوبة أن يواجه أي فرد موقفا عصيبا فإن تجارب من اجتازوا الأزمات بنجاح تشكل أنموذجا يقتدى به في مواجهة لحظات التحدي التي تمثلها الأزمات ^[11] .

والأزمة قد تكون تحولا إلى الأسوأ ونتائجها سلبية، كما أنها قد تكون تحولا إلى الأحسن، ولها نتائج إيجابية ونافعة، كما قال سبحانه: ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) (النساء:19)، وهذا يعتمد على كيفية إدارة الأزمة وكيفية التعامل معها. [ ص: 34 ]