الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 486 ] وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم أخذ القوم في التغيير والتبديل والتقرب إلى الناس بما يهوون وما تكره اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح ، والانسلاخ منه جملة ، فرأوا اليهود أنهم قالوا في المسيح : إنه ساحر ممخرق ولد زنا ، فقالوا : هو الرتام وهو ابن الله ! ! ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان ! ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة ! ورأوهم يجتنبون من مؤاكلة الحائض وملامستها ، فجامعوها هم ! ورأوهم يحرمون الخنزير ، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم ، ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة ، وقالوا : كل ما شئت ودع ما شئت لا حرج .

ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة فاستقبلوا هم الشرق ، ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها ، فجوزوا هم لأساقفتهم وبطاركتهم أن ينسخوا ما شاءوا ويحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا .

ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه فحرموا هم الأحد ، وأحلوا السبت مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه .

ورأوهم ينفرون من الصليب ، فإن في التوراة التي بأيديهم ملعون من تعلق بالصليب ، والنصارى تقر بهذا ، فعبدوا هم الصليب ، كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا فتعبدوا هم بأكله .

وفيها الأمر بالاختتان ، فتعبدوا بتركه ، مع إقرار النصارى أن المسيح قال لأصحابه : [ ص: 487 ] إنما جئتكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قبلي ، وما جئت ناقضا بل متمما ، ولأن تقع السماء على الأرض ، أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى .

فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم ، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بإفراكيس .

( أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها - من الشام - فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح ، فدعوهم إلى العمل في التوراة ، وتحريم ذبائح من ليس أهلها ، وإلى الختان وإقامة السبت ، وتحريم الخنزير ، وتحريم ما حرمته التوراة ، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه ، فاجتمع النصارى ببيت المقدس ، وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليجيبوهم إلى دين المسيح ، ويدخلوا فيه ، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم ، والترخيص لهم والاختلاط بهم ، وأكل ذبائحهم ، والانحطاط في أهوائهم ، والتخلق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم ، وأنشئوا في ذلك كتابا ، فهذا أحد مجامعهم الكبار - وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا مجمعا - وافتروا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع [ ص: 488 ] لهم أكبر منه في زمن قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية ) .

وفي زمنه بدل دين المسيح وهو الذي شاد دين النصرانية المبتدع ، وقام به وقعد ، وكان عدتهم زهاء ألفي رجل ، فقرروا تقريرا ثم رفضوه ولم يرتضوه ، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم ، والنصارى يسمونهم الآباء ، فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم ، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم ، لا تتم لأحد منهم نصرانية إلا به ، ويسمونه سنهودس وهي الأمانة ! ولفظها :

نؤمن بالله الأب الواحد خالق ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله ، بكر أبيه وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، الذي بيده أتقنت العوالم وخالق كل شيء ، الذي من أجلنا معاشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من الروح القدس ، ومن مريم البتول ، وحبلت به مريم البتول ، وأخذ وصلب أيام [ ص: 489 ] بلاطس الرومي ، ومات ودفن ، وقام في اليوم الثالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بالرب الواحد الذي يخرج من أبيه روح محبته ، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية ، وبقيام أبداننا ، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين .

فصرحوا فيها بأن المسيح رب ، وأنه ابن الله وأنه بكره ، وأنه ليس له ولد غيره ، وأنه ليس بمصنوع ، أي ليس بعبد مخلوق بل هو رب خالق ، وأنه إله حق استل وولد من إله حق ، وأنه مساو لأبيه في الجوهر ، وأنه بيده أتقنت العوالم ، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم ، هي التي ذاقت حر المسامير كما صرحوا به في كتبهم ، وهذه ألفاظهم :

قالوا : وقد قال القدوة عندنا : إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة ، هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته ، وهي اليد التي شبرت السماء ، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى ، قالوا : وقد وصفوا صنيع اليهود به - وهذه ألفاظهم - وإنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه .

قالوا : وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتلده ويؤخذ ويصلب ويقتل .

قالوا : وأما سنهودس دون الأمم ، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة وفيه : أن مريم حبلت بالإله وأولدته وأرضعته وسقته وأطعمته ، قالوا : وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه ، وابن ولده إبراهيم وربه وخالقه ورازقه ، وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه ، وابن مريم وربها وخالقها ورازقها .

قالوا : وقد قال علماؤنا : ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا : يسوع في البدء لم يزل [ ص: 490 ] كلمة ، والكلمة لم تزل الله ، والله هو الكلمة ، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله ، وهو ابن الله وهو كلمة الله .

هذه ألفاظهم ، قالوا : فالقديم الأزلي خالق السماوات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم ، وهو الذي حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها ، حيث قال للأعمى : أنت تؤمن بالله ؟ قال الأعمى : ومن هو حتى أؤمن به ؟ قال : هو المخاطب لك . فقال : آمنت بك وخر ساجدا .

قالوا : فالذي حبلت به مريم هو الله ، وابن الله ، وكلمة الله ، قالوا : وهو الذي ولد ورضع وفطم وأخذ وصلب وصفع وكتفت يداه وسمر في وجهه ومات ودفن وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل لأجل خلاص النصارى من خطاياهم .

قالوا : وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح بل هو رب الأنبياء ، وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة .

قالوا : وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة ، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات ، ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه ، فلهذا فارقت جميع إناث الحيوان ، وفارق ابنها جميع الخلق ، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء ، وحبلت به مريم وولدته إلها واحدا ومسيحا واحدا ، وربا واحدا ، وخالقا واحدا ، لا يقع بينهما فرق ، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه لا في حبل ، ولا في ولادة ، ولا في حال نوم ، ولا مرض ، ولا صلب ، ولا موت ، ولا دفن ، بل هو متحد به في حال الحبل ، فهو في تلك الحال مسيح واحد ، وخالق واحد ، وإله واحد ، ورب واحد ، وفي حال الولادة كذلك ، وفي حال الصلب والموت كذلك ، قالوا : فمنا من يطلق في لفظه وعبارته حقيقة هذا المعنى فيقول : مريم حبلت بالإله ، وولدت الإله ، ومات الإله ، ومنا [ ص: 491 ] من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ، ويعطى معناها وحقيقتها ، ويقول : مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة ، وولدت المسيح في الحقيقة ، وهي أم المسيح في الحقيقة ، والمسيح إله في الحقيقة ، ورب في الحقيقة ، وابن الله في الحقيقة ، وكلمة الله في الحقيقة ، لا ابن لله في الحقيقة سواه ، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو .

قالوا : فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من يقول حبلت بالإله ، وولدت الإله ، وقتل الإله ، وصلب الإله ودفن الإله ، وإن منعوا اللفظ والعبارة .

قالوا : وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا ، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا : حبلت بالإله ، وولدت الإله ، وأم إله ، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب ، ولكنا نقول : حل هذا كله ونزل بالمسيح ، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه ، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط ، قالوا : فهذا حقيقة ديننا وإيماننا ، والآباء والقدوة قد قالوا قبلنا وسنوه لنا ومهدوه وهم أعلم بالمسيح منا .

ولا يختلف المثلثة عباد الصليب من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي ولا عبد صالح ، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ، وأنه إله تام من إله تام ، وأنه خالق السماوات والأرض ، والأولين والآخرين ، ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم من القبور ، وحاشرهم ومحاسبهم ، ومثيبهم ومعاقبهم .

والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله ، وجعله لابنه ، فهو الذي يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويدبر أمر السماوات والأرض .

ألا تراهم يقولون في أمانتهم : ابن الله وبكر أبيه ، وليس بمصنوع - إلى قولهم - بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء - إلى قولهم - وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للفصل بين الأموات والأحياء ؟

[ ص: 492 ] ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم : أنت أيها المسيح يسوع تحيينا وتميتنا ، وترزقنا وتخلق أولادنا ، وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا .

التالي السابق


الخدمات العلمية