الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما اليهود - لعنهم الله - فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وعبادتهم للعجل وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض ، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب ، ومن غباوتهم وبلادتهم أن جعلوه على صورة أبله الحيوان ، وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم ، فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المجاوزة للحد ، كيف عبدوا مع الله إلها آخر ، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم ؟ !

وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم ، لم ينتظروا موته ! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الملائكة المقربين ، ولا من الأحياء الناطقين ، بل اتخذوه من الجمادات ! وإذ قد فعلوا ، فلم يجعلوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم ، بل هو من الجواهر الأرضية ! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها كالجبال ونحوها ، بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض ، والصخور والأحجار عالية عليها ! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة ، وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة ، وضربه بالحديد وسبكه ، بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار [ ص: 587 ] وإحراقه واستخراج خبثه ، وإذ قد فعلوا ، فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ، ولا نبي مرسل ، ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي ، بل على تمثال حيوان أرضي ، وإذ قد فعلوا لم يصوغوه على مثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما ، بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوانات وأقبله للضيم والذل بحيث تحرث عليه الأرض ، ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ، ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير ، فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وبحقائق الموجودات ؟

وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها فيعبد الأصنام إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه ، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره ، ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسوله لما قالوا لنبيهم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، ولا قالوا له : فاذهب أنت وربك فقاتلا .

ولا قتلوا نفسا ، وطرحوا المقتول على أبواب البراء من قتله ونبيهم حي بين أظهرهم ، وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء ، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس ؟ !

[ ص: 588 ] ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له : يا أبانا انتبه من رقدتك لا تنم .

ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ، ولما تحايلوا على تحليل محارمه وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل .

ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء .

ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة ، ويبدل بما هو خير منه وينهى عنه ، ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد ، كما هو شاهد في أحكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبدلها واختلافها بحسب الأحوال والأوقات والأماكن ، فلو اعتمد طبيب أن لا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الأزمان والأماكن والأحوال لأهلك الحرث والنسل وعد من الجهال ، فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح ؟ وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره بخلقه ؟

ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره ، أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتح الله عليهم سجدا ، ويقولوا حطة ، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم ، فدخلوا يزحفون على أستائهم بدل السجود لله ، ويقولون : حنطا سقما ، أي حنطة سمراء ، فذلك سجودهم وخضوعهم ، وهذا استغفارهم واستقالتهم من [ ص: 589 ] ذنوبهم ، ومن جهلهم وغباوتهم أن الله سبحانه وتعالى أراهم من الآيات آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا مزيد عليه ، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده ، وأمرهم أن يأخذوه بقوة ، فيعبدونه بما فيه ، كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط ، فأبوا أن يقبلوا ذلك ، وامتنعوا منه ، فنتق الجبل العظيم فوق رءوسهم على قدرهم ، وقيل لهم : إن لم تقبلوا طبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : رفع الله الجبل فوق رءوسهم وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر من تحتهم ، ونودوا إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا ، وأحرقتكم بهذا ، وأغرقتكم بهذا ، فقبلوا وقالوا : سمعنا وأطعنا ، ولولا الجبل ما أطعناك ، ولما آمنوا بعد ذلك قالوا : سمعنا وعصينا . ومن جهلهم أنهم شاهدوا الآيات ، ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر ، ثم قالوا بعد ذلك : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .

وكان الله سبحانه وتعالى قد أمر كليمه موسى عليه الصلاة والسلام أن يختار من خيارهم سبعين رجلا لميقاته ، فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل ، وقال للقوم : ادنوا ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب ، وقعوا سجدا ، فسمعوا الرب سبحانه وتعالى وهو يكلم موسى ، ويأمره وينهاه ، ويعهد إليه ، فلما انكشف الغمام ، قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .

ومن جهلهم أن هارون عليه السلام لما مات ودفنه موسى قالت بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته ، حسدته على خلقه ولينه من محبة بني إسرائيل له ، قال : فاختاروا [ ص: 590 ] سبعين رجلا من بني إسرائيل فوقفوا على قبر هارون ، فقال موسى : يا هارون ، أقتلت أم مت ؟ فقال : بل مت وما قتلني أحد .

فحسبك من جهالة أمة وجفائهم أنهم اتهموا نبيهم ونسبوه إلى قتل أخيه ، فقال موسى : ما قتلته فلم يصدقوه حتى أسمعهم كلامه وبرأه أخوه مما رموه به .

ومن جهلهم أن الله سبحانه وتعالى شبههم في حملهم التوراة ، وعدم الفقه فيها ، والعمل بها بالحمار يحمل أسفارا ، وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة منها :

أن الحمار من أبلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة .

ومنها : أنه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علق أو ماء لكان له به شعور ما .

ومنها : أنهم حين حملوها حيث حملوها تكليفا وقهرا لا أنهم حملوها طوعا واختيارا ، بل كانوا كالمكلفين لما حملوا لم يرفعوا به رأسا .

ومنها : أنهم حيث حملوها تكليفا وقهرا لم يرضوا بها ولم يحملوها رضاء واختيارا ، وقد علموا أنهم لا بد لهم من حملها ، وأنهم إن حملوها اختيارا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة .

ومنها : أنها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، وإعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم إلى ضده من غاية الجهل والغباوة ، وعدم الفطانة ، ومن جهلهم وقلة معرفتهم أنهم طلبوا عوض المن والسلوى [ ص: 591 ] اللذين هما من أطيب الأطعمة وأنفقها وأوفقها للغذاء الصالح : البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل ، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضا عن المن والسلوى لم يستكثر عليه أن يستبدل الكفر بالإيمان ، والضلالة بالهدى ، والغضب بالرضى ، والعقوبة بالرحمة ، وهذا حال من لم يعرف ربه ولا كتابه ، ولا رسوله ، ولا نفسه .

وأما نقضهم ميثاقهم وتبديلهم أحكام التوراة ، وتحريفهم الكلم عن مواضعه ، وأكلهم الربا ، وقد نهوا عنه ، وأكلهم الرشا ، واعتداؤهم في السبت ، حتى مسخوا قردة وخنازير ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وتكذيبهم عيسى ابن مريم رسول الله ، ورميهم له ولأمه بالعظائم ، وحرصهم على قتله ، وتفردهم دون الأمم بالخبث والبهت ، وشدة مكالبتهم على الدنيا وحرصهم عليها ، وقسوة قلوبهم وحسدهم ، وكثرة سحرهم فإليه النهاية .

وهذا وأضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله ، وباء بمعاداته ومعاداة ملائكته وأنبيائه وأهل ولايته .

فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله ؟ وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة ؟ وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة إليه وما له بعد الوصول إليه .

فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه [ ص: 592 ] ضل فكذلك أقول : جف العلم على علم الله ، ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .

فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه ألبتة ، فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، وقوله ظلمة ، وعمله ظلمة ، وقصده ظلمة ، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم ، وقلبه مظلم ، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولا يناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .


بصائر غشاها النهار بضوئه ولاءمها قطع من الليل مظلم

يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملاءمتها إياها .

والمؤمن عمله نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور ، وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ ص: 593 ] ثم ذكر حال الكفار وأعمالهم وتقلبهم في الظلمات ، فقال : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

والله أعلم

والحمد لله أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، وصلى الله علي سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا ، إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية