الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفيها : العلوم ثلاثة : علم نضج وما احترق ، وهو علم النحو والأصول . وعلم لا نضج ولا احترق ، وهو علم البيان والتفسير . وعلم نضج واحترق ، وهو علم الحديث والفقه . وقد قالوا : الفقه زرعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وسقاه علقمة ، وحصده إبراهيم النخعي ، وداسه حماد ، [ ص: 50 ] وطحنه أبو حنيفة ، وعجنه أبو يوسف وخبزه محمد ، فسائر الناس يأكلون من خبزه ، وقد نظم بعضهم فقال : الفقه زرع ابن مسعود وعلقمة حصاده ثم إبراهيم دواس     نعمان طاحنه يعقوب عاجنه
محمد خابز والآكل الناس وقد ظهر علمه بتصانيفه كالجامعين والمبسوط والزيادات والنوادر ، حتى قيل إنه صنف في العلوم الدينية تسعمائة وتسعة وتسعين كتابا . ومن تلامذته الشافعي رضي الله عنه . وتزوج بأم الشافعي وفوض إليه كتبه وماله [ ص: 51 ] فبسببه صار الشافعي فقيها .

ولقد أنصف الشافعي حيث قال : من أراد الفقه فليلزم أصحاب أبي حنيفة ، فإن المعاني قد تيسرت لهم ، والله ما صرت فقيها إلا بكتب محمد بن الحسن

التالي السابق


( قوله : علم نضج وما احترق ) المراد بنضج العلم تقرر قواعده وتفريع فروعها وتوضيح مسائله ، والمراد باحتراقه بلوغه النهاية في ذلك ، ولا شك أن النحو والأصول لم يبلغا النهاية في ذلك أفاده ح . والظاهر أن المراد بالأصول أصول الفقه ; لأن أصول العقائد في غاية التحرير والتنقيح تأمل .

( قوله : وهو علم البيان ) المراد به ما يعم العلوم الثلاثة : المعاني والبيان والبديع ; ولذا قال الزمخشري : إن منزلة علم البيان من العلوم مثل منزلة السماء من الأرض ، ولم يقفوا على ما في القرآن جميعه من بلاغته وفصاحته ونكته وبديعاته ، بل على النزر اليسير . قال الله تعالى - { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } - وإنما ذلك لما فيه من البلاغة ط .

( قوله : والتفسير ) أي تفسير القرآن فقد ذكر السيوطي في الإتقان أن القرآن في اللوح المحفوظ ، كل حرف منه بمنزلة جبل قاف ، وكل آية تحتها من التفاسير ما لا يعلمه إلا الله تعالى ط .

( قوله : علم الحديث ) لأنه قد تم المراد منه ; وذلك لأن المحدثين جزاهم الله تعالى خيرا وضعوا كتبا في أسماء الرجال ونسبهم والفرق بين أسمائهم ، وبينوا سيئ الحفظ منهم وفاسد الرواية من صحيحها ، ومنهم من حفظ المائة ألف والثلثمائة ، وحصروا من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ، وبينوا الأحكام والمراد منها فانكشفت حقيقته ط .

( قوله : والفقه ) لأن حوادث الخلائق على اختلاف مواقعها وتشتتاتها مرقومة بعينها أو ما يدل عليها ، بل قد تكلم الفقهاء على أمور لا تقع أصلا أو تقع نادرا ، وأما ما لم يكن منصوصا فنادر ، وقد يكون منصوصا غير أن الناظر يقصر عن البحث عن محله أو عن فهم ما يفيده مما هو منصوص بمفهوم أو منطوق ط ، أو يقال المراد بالفقه ما يشمل مذهبنا وغيره فإنه بهذا المعنى لا يقبل الزيادة أصلا فإنه لا يجوز إحداث قول خارج عن المذاهب الأربعة .

( قوله : وقد قالوا الفقه ) أي الفقه الذي استنبطه أبو حنيفة أو أعم .

( قوله : زرعه ) أي أول من تكلم باستنباط فروعه عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل ، أحد السابقين والبدريين والعلماء الكبار من الصحابة . أسلم قبل عمر رضي الله تعالى عنهما . قال النووي في التقريب : وعن مسروق أنه قال : انتهى علم الصحابة إلى ستة : عمر وعلي وأبي وزيد وأبي الدرداء وابن مسعود ، ثم انتهى علم الستة إلى علي وعبد الله بن مسعود .

( قوله : وسقاه ) أي أيده ووضحه علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الفقيه الكبير ، عم الأسود بن يزيد وخال إبراهيم النخعي . ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ القرآن والعلم عن ابن مسعود وعلي وعمر وأبي الدرداء وعائشة .

( قوله : وحصده ) أي جمع ما تفرق من فوائده ونوادره وهيأه للانتفاع به إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي الكوفي ، الإمام المشهور الصالح الزاهد . روى عن الأعمش وخلائق توفي سنة ست أو خمس وتسعين .

( قوله : وداسه ) أي اجتهد في تنقيحه وتوضيحه حماد بن مسلم الكوفي شيخ الإمام وبه تخرج . وأخذ حماد بعد ذلك عنه ، قال الإمام ما صليت [ ص: 50 ] صلاة إلا استغفرت له مع والدي مات سنة مائة وعشرين .

( قوله : وطحنه ) أي أكثر أصوله وفرع فروعه وأوضح سبله إمام الأئمة وسراج الأمة أبو حنيفة النعمان ، فإنه أول من دون الفقه ورتبه أبوابا وكتبا على نحو ما عليه اليوم ، وتبعه مالك في موطئه ، ومن كان قبله إنما كانوا يعتمدون على حفظهما . وهو أول من وضع كتاب الفرائض وكتاب الشروط ، كذا في الخيرات الحسان في ترجمة أبي حنيفة النعمان للعلامة ابن حجر

( قوله : وعجنه ) أي دقق النظر في قواعد الإمام وأصوله واجتهد في زيادة استنباط الفروع منها ، والأحكام تلميذ الإمام الأعظم أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم قاضي القضاة ، فإنه كما رواه الخطيب في تاريخه أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ، وأملى المسائل ونشرها وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض ، وهو أفقه أهل عصره ، ولم يتقدمه أحد في زمانه ، وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة . ولد سنة ( 113 ) وتوفي ببغداد سنة ( 182 ) .

( قوله : وخبزه ) أي زاد في استنباط الفروع وتنقيحها وتهذيبها وتحريرها بحيث لم تحتج إلى شيء آخر الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة وأبي يوسف محرر المذهب النعماني ، المجمع على فقاهته ونباهته .

روي أنه سأل رجل المزني عن أهل العراق ، فقال : ما تقول في أبي حنيفة ؟ فقال : سيدهم ، قال : فأبو يوسف ؟ قال : أتبعهم للحديث ، قال : فمحمد بن الحسن قال : أكثرهم تفريعا قال : فزفر ؟ قال أحدهم قياسا ، ولد سنة ( 132 ) وتوفي بالري سنة ( 189 ) .

( قوله : من خبزه ) بالضم أي خبز محمد الذي خبزه من عجين أبي يوسف من طحين أبي حنيفة ، ولذا روى الخطيب عن الربيع قال : سمعت الشافعي يقول : الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه . كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه .

( قوله : فقال ) أي من بحر البسيط ، وترتيب هذا النظر بخلاف الترتيب قبله وسقط منه حماد .

( قوله : علمه ) أي محمد .

( قوله : كالجامعين ) الصغير والكبير . وقد ألفت في المذهب تآليف سميت بالجامع فوق ما ينوف عن أربعين ، وكل تأليف لمحمد وصف بالصغير فهو من روايته عن أبي يوسف عن الإمام ، وما وصف بالكبير فروايته عن الإمام بلا واسطة ط .

( قوله : والنوادر ) الأولى إبدالها بالسير ; لأن هذه الكتب الخمسة هي كتب محمد المسماة بالأصل وظاهر الرواية ; لأنها رويت عنه برواية الثقات ، فهي ثابتة عنه متواترة أو مشهورة ، وفيها المسائل المروية عن أصحاب المذهب ، وهم أبو ح وأبو س وم . وأما النوادر فهي مسائل مروية عنهم في كتب أخر لمحمد كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات والرقيات وهي دون الأولى ، وبقي قسم ثالث ، وهو مسائل النوازل سئل عنها المشايخ المجتهدون في المذهب ولم يجدوا فيها نصا فأفتوا فيها تخريجا ، وقد نظمت ذلك فقلت : وكتب ظاهر الرواية أتت ستا لكل ثابت عنهم حوت صنفها محمد الشيباني
حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير والكبير
والسير الكبير والصغير ثم الزيادات مع المبسوط
تواترت بالسند المضبوط كذا له مسائل النوادر
إسنادها في الكتب غير ظاهر وبعدها مسائل النوازل
خرجها الأشياخ بالدلائل [ ص: 51 ] وسيأتي بسط ذلك آخر المقدمة .

وفي طبقات التميمي عن شرح السير الكبير للسرخسي أن السير الكبير آخر تصنيف صنفه محمد في الفقه . وكان سببه أن السير الصغير وقع بيد الأوزاعي إمام أهل الشام فقال ما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب . فإنه لا علم لهم بالسير ، فبلغ محمدا فصنف الكبير ، فحكى أنه لما نظر فيه الأوزاعي قال : لولا ما ضمنه من الأحاديث لقلت إنه يضع العلم ، وإن الله تعالى عين جهة إصابة الجواب في رأيه ، صدق الله تعالى - { وفوق كل ذي علم عليم } - ثم أمر محمد أن يكتب في ستين دفترا ، وأن يحمل إلى الخليفة فأعجبه وعده من مفاخر أيامه ا هـ ملخصا .

( قوله : فبسببه صار الشافعي فقيها ) أي ازداد فقاهة ، واطلع على مسائل لم يكن مطلعا عليها ، فإن محمدا أبدع في كثرة استخراج المسائل ، وإلا فالشافعي رضي الله تعالى عنه فقيه مجتهد قبل وروده إلى بغداد ، وكيف يستفاد الاجتهاد المطلق ممن ليس كذلك أفاده ح .

( قوله : والله ما صرت فقيها ) الكلام فيه كما تقدم . وروي عن الشافعي أنه قال أيضا : حملت من علم ابن الحسن وقر بعير كتبا . وقال : أمن الناس علي في الفقه محمد بن الحسن .




الخدمات العلمية