الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقيل لأبي حنيفة : بم بلغت ما بلغت ؟ قال : ما بخلت بالإفادة ، وما استنكفت عن الاستفادة . قال مسافر بن كدام : من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوت أن لا يخاف . وقال فيه :

حسبي من الخيرات ما أعددته يوم القيامة في رضا الرحمن     دين النبي محمد خير الورى
ثم اعتقادي مذهب النعمان

وعنه عليه الصلاة والسلام { إن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه نعمان وكنيته أبو حنيفة ، هو سراج أمتي } وعنه عليه الصلاة والسلام { إن سائر الأنبياء يفتخرون بي وأنا أفتخر بأبي حنيفة ، من أحبه فقد أحبني ، ومن أبغضه فقد أبغضني } كذا في التقدمة شرح مقدمة أبي الليث . قال في الضياء المعنوي : [ ص: 53 ] وقول ابن الجوزي إنه موضوع تعصب ; لأنه روي بطرق مختلفة . وروى الجرجاني في مناقبه بسنده لسهل بن عبد الله التستري أنه قال " لو كان في أمتي موسى وعيسى مثل أبي حنيفة لما تهودوا ولما تنصروا " [ ص: 54 ] ومناقبه أكثر من أن تحصى ، وصنف فيها سبط بن الجوزي مجلدين كبيرين ، وسماه الانتصار لإمام أئمة الأمصار [ ص: 55 ] وصنف غيره أكثر من ذلك

التالي السابق


( قوله : وقيل لأبي حنيفة ) ذكر في التعليم هذه العبارة عن أبي يوسف ثم قال : قيل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : بم أدركت العلم ؟ قال : إنما أدركت العلم بالجهد والشكر ، وكلما فهمت ووقفت على فقه وحكمة قلت الحمد لله فازداد علمي ط .

( قوله : وما استنكفت ) أي أنفت وامتنعت .

( قوله : مسافر بن كدام ) الذي رأيته في مواضع كتعدده : مسعر بن كدام بكسر أولهما وكدام بالدال .

( قوله : رجوت أن لا يخاف ) لأنه قلد إماما عالما صحيح الاجتهاد سالم الاعتقاد ، ومن قلد عالما لقى الله سالما ، وتمام كلام مسعر : وأن لا يكون فرط في الاحتياط لنفسه .

( قوله : وقال ) أي مسعر ، لكن ذكر في المقدمة الغزنوية هذين البيتين وأنه أنشدهما أبو يوسف أفاده ط .

( قوله : حسبي ) أي كافي مبتدأ خبره قوله ما أعددته : أي هيأته ، ويوم القيامة متعلق بحسبي أو بأعددته أو برضا وفي للسببية ودين بدل من ما .

( قوله : وأنا أفتخر إلخ ) الفخر والافتخار التمدح بالخصال : أي يذكر من جملة نعم الله تعالى عليه أن جعل من أتباعه هذا الرجل الذي شيد بنيان الدين بعد انقراض الصحابة وأكثر التابعين ، وتبعه ما لا يحصى من الأمة ، وسبق في الاجتهاد وتدوين الفقه من بعده من الأئمة ، وأعانهم بأصحابه وفوائده الجمة على استنباط الأحكام المهمة .

( قوله : الضياء المعنوي ) [ ص: 53 ] هو شرح مقدمة الغزنوي للقاضي أبي البقاء بن الضياء المكي .

( قوله : وقول ابن الجوزي ) أي ناقلا عن الخطيب البغدادي .

( قوله : لأنه روي بطرق مختلفة ) بسطها العلامة طاش كبرى ، فيشعر بأن له أصلا ، فلا أقل من أن يكون ضعيفا فيقبل ; إذ لم يترتب عليه إثبات حكم شرعي ، ولا شك في تحقق معناه في الإمام فإنه سراج يستضاء بنور علمه ويهتدى بثاقب فهمه ، لكن قال بعض العلماء : إنه قد أقر ابن الجوزي على عده هذه الأخبار في الموضوعات الحافظ الذهبي والحافظ السيوطي والحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ الذين انتهت إليه رئاسة مذهب أبي حنيفة في زمنه الشيخ قاسم الحنفي ، ومن ثم لم يورد شيئا منها أئمة الحديث الذين صنفوا في مناقب هذا الإمام كالطحاوي وصاحب طبقات الحنفية محيي الدين القرشي وآخرين متقنين ثقات أثبات نقاد لهم اطلاع كثير . ا هـ .

وقال العلامة ابن حجر المكي في الخيرات الحسان في ترجمة أبي حنيفة النعمان : ومن اطلع على ما يأتي في هذا الكتاب من أحوال أبي حنيفة وكراماته وأخلاقه وسيرته علم أنه غني عن أن يستشهد على فضله بخبر موضوع .

وقال : ومما يصلح للاستدلال به على عظيم شأن أبي حنيفة ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { ترفع زينة الدنيا سنة خمسين ومائة } ومن ثم قال شمس الأئمة الكردي : إن هذا الحديث محمل على أبي حنيفة ; لأنه مات تلك السنة . ا هـ .

وقال أيضا : وقد وردت أحاديث صحيحة تشير إلى فضله : منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة والطبراني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس } ورواه أبو نعيم عن أبي هريرة والشيرازي والطبراني عن قيس بن سعد بن عبادة بلفظ : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لو كان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس } ولفظ الطبراني عن قيس { لا تناله العرب لناله رجال من أبناء فارس } وفي رواية مسلم عن أبي هريرة { لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله } وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة { والذي نفسي بيده لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجل من فارس } وليس المراد بفارس البلاد المعروفة ، بل جنس من العجم وهم الفرس ; لخبر الديلمي { خير العجم فارس } وقد كان جد أبي حنيفة من فارس على ما عليه الأكثرون . قال الحافظ السيوطي : هذا الحديث الذي رواه الشيخان أصل صحيح يعتمد عليه في الإشارة لأبي حنيفة ، وهو متفق على صحته وبه يستغنى عما ذكره أصحاب المناقب ممن ليس له دراية في علم الحديث ، فإن في سنده كذابين ووضاعين ا هـ ملخصا .

وفي حاشية الشبراملسي على المواهب عن العلامة الشامي تلميذ الحافظ السيوطي قال : ما جزم به شيخنا من أن أبا حنيفة هو المراد من هذا الحديث ظاهر لا شك فيه ; لأنه لم يبلغ من أبناء فارس في العلم مبلغه أحد . ا هـ .

( قوله : التستري ) إمام عظيم رضي الله عنه ، كان يقول : إني لأعهد الميثاق الذي أخذه الله تعالى علي في عالم الذر ; وإني لأرعى أولادي من هذا الوقت إلى أن أخرجهم الله من علم الشهود والظهور .

( قوله : لما تهودوا إلخ ) أي لما داموا على دينهم الباطل واعتقادهم العاطل ; ولم يقبلوا ما أدخله عليهم علماؤهم من الدسائس فأعموهم عما [ ص: 54 ] جاء به نبينا من النفائس ، فإنهم لم يقبلوا ذلك إلا لعقلهم الفاسد ، ورأيهم الكاسد ، فلو كان فيهم مثله غزير العلم ، ثاقب الفهم ، قائما بالصدق ، عارفا بالحق ، لرد جميع ذلك ، وأنقذهم من المهالك ، قبل غلوهم وتمكن الشبه في عقولهم ، فإن كونه واحدا منهم يكون لكلامه أقبل ، فإن الجنس إلى الجنس أميل ، فلا يلزم تفضيله على نبينا المكرم صلى الله عليه وسلم ، فافهم .

( قوله : ومناقبه أكثر من أن تحصى ) هذا من مشكل التراكيب فإن ظاهره تفضيل الشيء في الأكثرية على الإحصاء ولا معنى له ، ونظائره كثيرة قل من يتنبه لإشكالها ، ووجه بأوجه متعددة بينتها في رسالتي المسماة بالفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة ، أحسنها ما ذكره الرضي أنه ليس المراد التفضيل بل المراد البعد عن الكثرة ، فمن متعلقة بأفعل التفضيل بمعنى تجاوز وباين بلا تفضيل .

( قوله : سبط ) قيل الأسباط الأولاد خاصة ، وقيل أولاد الأولاد ، وقيل أولاد البنات نهاية الحديث المشهور الثالث .

( قوله : وسماه الانتصار ) إنما سماه بذلك ; لأن الإمام رضي الله عنه لما شاعت فضائله وعمت الخافقين فواضله ، جرت عليه العادة القديمة من إطلاق ألسنة الحاسدين فيه حتى طعنوا في اجتهاده وعقيدته بما هو مبرأ منه قطعا لقصد أن يطفئوا نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، كما تكلم بعضهم في مالك ، وبعضهم في الشافعي ، وبعضهم في أحمد ، بل قد تكلمت فرقة في أبي بكر وعمر ، وفرقة في عثمان وعلي ، وفرقة كفرت كل الصحابة :

ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما وللناس قال بالظنون وقيل

وممن انتصر للإمام رحمه الله تعالى العلامة السيوطي في كتاب سماه تبييض الصحيفة والعلامة ابن حجر في كتاب سماه الخيرات الحسان والعلامة يوسف بن عبد الهادي الحنبلي في مجلد كبير سماه تنوير الصحيفة ، وذكر فيه عن ابن عبد البر : لا تتكلم في أبي حنيفة بسوء ولا تصدقن أحدا يسيء القول فيه ، فإني والله ما رأيت أفضل ولا أورع ولا أفقه منه ثم قال : ولا يغتر أحد بكلام الخطيب ، فإن عنده العصبية الزائدة على جماعة من العلماء كأبي حنيفة والإمام أحمد وبعض أصحابه ، وتحامل عليهم بكل وجه ، وصنف فيه بعضهم السهم المصيب في كيد الخطيب .

وأما ابن الجوزي فإنه تابع الخطيب وقد عجب سبطه منه حيث قال في مرآة الزمان : وليس العجب من الخطيب فإنه طعن في جماعة من العلماء ، وإنما العجب من الجد كيف سلك أسلوبه وجاء بما هو أعظم . قال : ومن المتعصبين على أبي حنيفة الدارقطني وأبو نعيم ، فإنه لم يذكره في الحلية وذكر من دونه في العلم والزهد ا هـ .

وممن انتصر له العارف الشعراني في الميزان بما يتعين مطالعته قال في الخيرات الحسان : وبفرض صحة ما ذكره الخطيب من القدح عن قائله فلا يعتد به ، فإنه إن كان من غير أقران الإمام فهو مقلد لما قاله أو كتبه أعداؤه أو من أقرانه فكذلك ; لأن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول كما صرح به الذهبي والعسقلاني قالا ولا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب ; إذ الحسد لا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالى . قال الذهبي : وما علمت أن عصرا سلم أهله من ذلك إلا عصر النبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين . وقال التاج السبكي . ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين ولا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح .

ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك ، وإلا فاضرب صفحا ، فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري ، أو بين مالك وابن أبي ذئب ، أو بين أحمد بن صالح والنسائي ، أو بين أحمد [ ص: 55 ] والحارث المحاسبي ، وذكر كلام كثيرين من نظراء مالك فيه ، وكلام ابن معين في الشافعي . قال : وما مثل من تكلم فيهما وفي نظائرهما إلا كما قال الحسن بن هانئ :

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

ا هـ ملخصا . وقد أطال في ذلك وفي ذكر من أثنى على الإمام من أئمة السلف وممن بعدهم ، وما نقلوه من سعة علمه وفهمه وزهده وورعه وعبادته واحتياطه وخوفه ، وغير ذلك مما يستدعي مؤلفات ، وما ينسب إلى الإمام الغزالي يرده ما ذكره في إحيائه المتواتر عنه حيث ترجم الأئمة الأربعة وقال : وأما أبو حنيفة فلقد كان أيضا عابدا زاهدا عارفا بالله تعالى ، خائفا منه ، مريدا وجه الله تعالى بعلمه إلخ .

أقول : ولا عجب من تكلم السلف في بعضهم كما وقع للصحابة ، لأنهم كانوا مجتهدين فينكر بعضهم على من خالف الآخر سيما إذا قام عنده ما يدل له على خطأ غيره ، فليس قصدهم إلا الانتصار للدين لا لأنفسهم ، وإنما العجب ممن يدعي العلم في زماننا ومأكله ومشربه وملبسه وعقوده وأنكحته وكثير من تعبداته يقلد فيها الإمام الأعظم ثم يطعن فيه وفي أصحابه ، وليس مثله إلا كمثل ذبابة وقعت تحت ذنب جواد في حالة كره وفره وليت شعري لأي شيء يصدق ما قيل في أبي حنيفة ولا يصدق ما قيل في إمام مذهبه ، ولم لا يقلد إمام مذهبه في أدبه مع هذا الإمام الجليل ؟ فقد نقل العلماء ثناء الأئمة الثلاثة على أبي حنيفة وتأدبهم معه ولا سيما الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، والكامل لا يصدر منه إلا الكمال ، والناقص بضده . ويكفي المعترض حرمانه بركة من يعترض عليه ، أعاذنا الله من ذلك ، وأدامنا على حب سائر الأئمة المجتهدين وجميع عباده الصالحين ، وحشرنا في زمرتهم يوم الدين .

ومما روي من تأدبه معه أنه قال : إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره ، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وسألت الله تعالى عند قبره فتقضى سريعا . وذكر بعض من كتب على المناهج أن الشافعي صلى الصبح عند قبره فلم يقنت ، فقيل له لم ؟ قال : تأدبا مع صاحب هذا القبر . وزاد غيره أنه لم يجهر بالبسملة .

وأجابوا عن ذلك بأنه قد يعرض للسنة ما يرجح تركها عند الاحتياج إليه كرغم أنف حاسد ، وتعليم جاهل ولا شك أن أبا حنيفة كان له حساد كثيرون ، والبيان بالفعل أظهر منه بالقول ، فما فعله الشافعي رضي الله تعالى عنه أفضل من فعل القنوت والجهر .

أقول : ولا يخفى عليك أن ذلك الطاعن الأحمق طاعن في إمام مذهبه ، ولذا قال في الميزان : سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى مرارا يقول : يتعين على أتباع الأئمة أن يعظموا كل من مدحه إمامهم ; لأن إمام المذهب إذا مدح عالما وجب على جميع أتباعه أن يمدحوه تقليدا لإمامهم ، وأن ينزهوه عن القول في دين الله بالرأي . وقال أيضا لو أنصف المقلدون للإمام مالك والشافعي لم يضعف أحد منهم قولا من أقوال أبي حنيفة بعد أن سمعوا مدح أئمتهم له ، ولو لم يكن من التنويه برفعة مقامه إلا كون الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ترك القنوت في الصبح لما صلى عند قبره لكان فيه كفاية في لزوم أدب مقلديه معه . ا هـ .

( قوله : وصنف غيره ) كالإمام الطحاوي والحافظ الذهبي والكردري وغيرهم ممن قدمناهم




الخدمات العلمية