الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              القانون الثاني :

              أن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية ، وذلك غامض فلا بد من بيانه فنقول : المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالإضافة إلى الموصوف ، إما ذاتيا له ويسمى صفة نفس ، وإما لازما ويسمى تابعا ، وإما عارضا لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود ، ولا بد من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا .

              أما الذاتي أعني به كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه ، وذلك كاللونية للسواد والجسمية للفرس والشجر فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية ، وكذا الفرس ، ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى فلا بد من إدراجه في حد الشيء ، فمن يحد النبات يلزمه أن يقول : " جسم نام " لا محالة .

              وأما اللازم فما لا يفارق الذات ألبتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه ، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس ، فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له ، وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك ، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا يتصور مفارقته له ، ولكن فهم الأرض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا ، ولا يمكننا أن نعلم الأرض والسماء ما لم نعلم الجسم .

              وأما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما [ ص: 13 ] سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي ، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العين ولكن يمكن رفعه في الوهم . وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس فإنه ملازم لا تتصور مفارقته .

              ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة ، واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن ، وقد استقصيناه في كتاب معيار العلم " .

              فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم فلا تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات ، وينبغي أن تورد جميع الذاتيات حتى يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته ، وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب " ما هو " فإن القائل : ما هو ؟ يطلب حقيقة الشيء فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي . والذاتي ينقسم إلى عام ويسمى جنسا وإلى خاص ويسمى نوعا ، فإن كان الذاتي العام لا أعم منه سمي جنس الأجناس ، وإن كان الذاتي الخاص لا أخص منه سمي نوع الأنواع وهو اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم عليه فإنه لا ضرر فيه وهو كالمستعمل أيضا في علومنا ، ومثاله أنا إذا قلنا : الجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم والجسم ينقسم إلى نام وغير نام والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وغير عاقل ، فالجوهر جنس الأجناس إذ لا أعم منه والإنسان نوع الأنواع إذ لا أخص منه والنامي نوع بالإضافة إلى الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه ، وكذلك الحيوان بين النامي الأعم والإنسان الأخص .

              فإن قيل : كيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه ؟ وكيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وخياط أخص منه ؟ قلنا : لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس ، الأعم فقط بل عنينا الأعم الذي هو ذاتي للشيء أي داخل في جواب " ما هو " بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوما للعقل وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية إذ بطلانه لا يوجب زوال الماهية عن الذهن .

              بيانه إذا قال القائل : ما حد المثلث ؟ فقلنا شكل يحيط به ثلاثة أضلاع ، أو قال : ما حد المسبع ؟ فقلنا شكل يحيط به سبعة أضلاع فهم السائل حد المسبع وإن لم يعلم أن المسبع موجود في العالم أصلا فبطلان العلم بوجوده لا يبطل عن ذهنه فهم حقيقة المسبع ، ولو بطل عن ذهنه الشكل لبطل المسبع ولم يبق مفهوما عنده . وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلا أو قصيرا أو شيخا أو صبيا أو كاتبا أو أبيض أو محترفا فشيء منه لا يدخل في الماهية إذ لا يتغير جواب الماهية بتغيره ، فإذا قيل لنا : ما هذا ؟ فقلنا إنسان وكان صغيرا فكبر أو قصيرا فطال فسئلنا مرة أخرى : ما هو ؟ لست أقول من هو لكان الجواب ذلك بعينه .

              ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وقيل : ما هو ؟ لقلنا نطفة ، فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل : ما هو ؟ تغير الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان . وكذلك الماء إذا سخن فقيل : ما هو ؟ قلنا ماء ، كما في حالة البرودة ولو استحال بالنار بخارا ثم هواء ثم قيل : ما هو ؟ تغير الجواب . فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل فلنذكر في الحد الحقيقي ما يدخل في الماهية .

              وأما الحد اللفظي والرسمي [ ص: 14 ] فمؤنتهما خفيفة إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر وتبديل لفظ العلم بالمعرفة أو بما هو وصف عرضي جامع مانع ، وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي وهو الكاشف عن ماهية الشيء لا غير

              التالي السابق


              الخدمات العلمية