الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : قال بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل .

              ومثاله تأويل أبي حنيفة في مسألة الأبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام : { في أربعين شاة شاة } فقال أبو حنيفة : الشاة غير واجبة ، وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان ، قال : فهذا باطل ; لأن اللفظ نص في وجوب شاة ، وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعا للنص ، فإن قوله : { وآتوا الزكاة } للإيجاب ، وقوله عليه السلام : { في أربعين شاة شاة } بيان للواجب ، وإسقاط وجوب الشاة رفع للنص ; وهذا غير مرضي عندنا ، فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا ، فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة ، فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجبها ، وإن كان الوجوب يتأدى بخصلة أخرى فهذا توسيع للوجوب ، واللفظ نص في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه ، ولعله ظاهر في التعيين محتمل للتوسيع والتخيير ، وهو كقوله : { وليستنج بثلاثة أحجار } فإن إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء ، لكن الحجر يجوز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينه وبين ما في معناه .

              نعم إنما ينكر الشافعي هذا التأويل لا من حيث إنه نص لا يحتمل لكن من وجهين :

              أحدهما : أن دليل الخصم أن المقصود سد الخلة ، ومسلم أن سد الخلة مقصود ، لكن غير مسلم أنه كل المقصود ، فلعله قصد مع ذلك التعبد بإشراك الفقير في جنس مال الغني ، فالجمع بين الظاهر وبين التعبد ، ومقصود سد الخلة أغلب على الظن في العبادات ; لأن العبادات مبناها على الاحتياط من تجريد النظر إلى مجرد سد الخلة .

              الثاني : أن التعليل بسد الخلة مستنبط من قوله : { في أربعين شاة شاة } هو استنباط يعود على أصل النص بالإبطال أو على الظاهر بالرفع وظاهر وجوب الشاة على التعيين ; فإبراز معنى لا يوافق الحكم السابق إلى الفهم من اللفظ لا معنى له ; لأن العلة ما يوافق الحكم ، والحكم لا [ ص: 199 ] معنى له إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يدل على تعيين الشاة ، وهذا التعليل يدفع هذا الظاهر .

              وهذا أيضا عندنا في محل الاجتهاد ، فإن معنى سد الخلة ما يسبق إلى الفهم من إيجاب الزكاة للفقراء ، وتعيين الشاة يحتمل أن يكون للتعبد كما ذكر الشافعي رحمه الله ويحتمل أن لا يكون متعينا لكن الباعث على تعيينه شيئان :

              أحدهما : أنه الأيسر على الملاك والأسهل في العبادات كما عين ذكر الحجر في الاستنجاء ; لأنه أكثر في تلك البلاد وأسهل ، وكما يقول المفتي لمن وجبت عليه كفارة اليمين : تصدق بعشرة أمداد من البر ; لأنه يرى ذلك أسهل عليه من العتق ويعلم من عادته أنه لو خير بينهما لاختار الإطعام على الإعتاق ليسره فيكون ذلك باعثا على تخصيصه بالذكر .

              والثاني : أن الشاة معيار لمقدار الواجب فلا بد من ذكرها ; إذ القيمة تعرف بها ، وهي تعرف بنفسها فهي أصل على التحقيق ، ولو فسر النبي عليه الصلاة والسلام كلامه بذلك لم يكن متناقضا ولكان حكما بأن البدل يجري في الزكاة . فهذا كله في محل الاجتهاد ، إنما تشمئز عنه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم منه ، فليس يبطل الشافعي رحمه الله هذا لانتفاء الاحتمال لكن لقصور الدليل الذي يعضده ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة ; ولأنه ذكر الشاة في خمس من الإبل وليس من جنسه حتى يكون للتسهيل . ثم في الجبران ردد بين شاة وعشرة دراهم ولم يردهم إلى قيمة الشاة ، وفي خمس من الإبل لم يردد ، فهذه قرائن تدل على التعبد ، والباب باب التعبد والاحتياط فيه أولى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية