الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : قال النظام : العلة المنصوصة توجب الإلحاق لكن لا بطريق القياس بل بطريق اللفظ والعموم ، إذ لا فرق في اللغة بين قوله : " حرمت كل مشتد " وبين قوله " حرمت الخمر لشدتها " . وهذا فاسد ; لأن قوله " حرمت الخمر لشدتها " لا يقتضي من حيث اللفظ والوضع إلا تحريم الخمر خاصة ، ولا يجوز إلحاق النبيذ ما لم يرد التعبد بالقياس ، وإن لم يرد ، فهو كقول " أعتقت غانما لسواده " فإنه يقتضي إعتاق جميع السودان ، فكيف يصح هذا ولله أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ، ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الشدة ، ويجوز أن يعلم الله خاصية في شدة الخمر تدعو إلى ركوب القبائح ويعلم في شدة النبيذ لطفا داعيا إلى العبادات ؟ فإذا قد ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس .

              فإن قيل قول السيد والوالد لعبده " لا تأكل هذا ; لأنه سم وكل هذا فإنه غذاء " يفهم منه المنع عن أكل سم آخر ، والأمر يتناول ما هو مثله في الاغتذاء قلنا : لأن ذلك معلوم بقرينة اطراد العادات ومعرفة أخلاق الآباء والسادات في مقاصدهم من العبيد والأبناء ، وأنهم لا يفرقون بين سم وسم ، وإنما يتقون الهلاك ، وأما الله تعالى إذا حرم شيئا بمجرد [ ص: 302 ] إرادته فيجوز أن يبيح مثله وأن يحرم ; لأن فيه رفقا ومصلحة ، فيجوز أن يكون قد سبق في علمه أن مثله مفسدة ; لأن تضمنه الصلاح والفساد ليس لطبعه ولذاته ولوصف هو عليه في نفسه ، بل يجوز أن يكون في فعل شيء وقت الزوال مصلحة وفيه وقت العصر مفسدة ، وكذلك يجوز أن يختلف بيوم السبت والجمعة والمكان والحال فكذلك يجوز أن يفارق شدة الخمر شدة النبيذ .

              فإن قيل : فإن لم يفهم النبيذ من الخمر فينبغي أن لا يفهم تحريم الضرب والأذى من التأفيف . قلنا : الحق عندنا غير مفهوم من مجرد اللفظ العاري عن القرينة لكن إذا دلت قرينة الحال على قصد الإكرام فعند ذلك يدل لفظ التأفيف على تحريم الضرب بل يكون ذلك أسبق إلى الفهم من التأفيف المذكور ; إذ التأفيف لا يكون مقصودا في نفسه بل يقصد به التنبيه على منع الإيذاء بذكر أقل درجاته ، وكذلك النقير والقطمير والذرة والدينار لا يدل بمجرد اللفظ على ما فوقه في قوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وفي قوله تعالى : { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وفي قوله : والله ما شربت لفلان جرعة ولا أخذت من ماله حبة ، بل بقرينة دفع المنة ، وإظهار جزاء العمل ; وليس إلحاق الضرب بالتأفيف أيضا بطريق القياس ; لأن الفرع المسكوت عنه الملحق بطريق القياس هو الذي يتصور أن يغفل عنه المتكلم ولا يقصده بكلامه ، وها هنا المسكوت عنه هو الأصل في القصد الباعث على النطق بالتأفيف ، وهو الأسبق إلى فهم السامع ، فهذا مفهوم من لحن القول وفحواه ، وعند ظهور القرينة المذكورة ربما تظهر قرينة أخرى تمنع هذا الفهم ، إذ الملك قد يقتل أخاه المنازع له فيقول للجلاد : اقتله ولا تهنه ولا تقل له أف . أما تحريم النبيذ بتحريم الخمر فليس من هذا القبيل بل لا وجه له إلا القياس ، فإذا لم يرد التعبد بالقياس فقول : " حرمت الخمر لشدتها " لا يفهم تحريم النبيذ بخلاف قوله " حرمت كل مشتد .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية