الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط .

              بل يجوز تكليف ما لا يطاق والأمر بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإعدام القديم وإيجاد الموجود ، وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله . وهو لازم على مذهبه من وجهين أحدهما : أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة ; لأن الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله ، وإنما يكون مأمورا قبله .

              والآخر : أن قدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه ، فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير . واستدل على هذا بثلاثة أشياء : قوله تعالى : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ، والمحال لا يسأل دفعه فإنه مندفع بذاته . وهو ضعيف ، ; لأن المراد به ما يشق ويثقل علينا إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله : { اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } فقد يقال حمل ما لا طاقة له به ; فالظاهر المؤول ضعيف الدلالة في القطعيات .

              الثاني : قولهم إن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الإيمان ، ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه ; فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو [ ص: 70 ] محال . وهذا ضعيف أيضا ; لأن أبا جهل أمر بالإيمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر ، إذ لم يكن هو مجنونا فكان الإمكان حاصلا ، لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا .

              فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره ، فإذا علم كون الشيء مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا . وكذلك نقول القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها ، وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا ; ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه .

              الثالث : قولهم : لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به أو ; لأنه يناقض الحكمة ، ولا يستحيل لصيغته إذ لا يستحيل أن يقول : { كونوا قردة خاسئين } ، وأن يقول السيد لعبده الأعمى : أبصر ، وللزمن امش . وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا ، إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين . ومحال أن يقال إنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة ، فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال .

              إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه الأصلح ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد والفساد والسفه من المخلوق ممكن فلم يمتنع ذلك مطلقا والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته ، إذ يجوز أن ترد صيغته ولكن للتعجيز لا للطلب ، كقوله تعالى : { كونوا حجارة أو حديدا } ، وكقوله : { كونوا قردة خاسئين } أو لإظهار القدرة ، كقوله تعالى : { كن فيكون } لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه ولكن يمتنع لمعناه ، إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة ، والطلب يستدعي مطلوبا وذلك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق ، فيجوز أن يقول : تحرك ، إذ التحرك مفهوم ، فلو قال له : تمرك ، فليس بتكليف إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه فإنه لفظ مهمل ، فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور فلا يكون ذلك تكليفا أيضا ; لأن التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة ; لأن التكليف اقتضاء طاعة ، فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر ; لأن الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا وهذا غير معقول أي : لا وجود له في العقل ، فإن الشيء قبل أن يوجد في نفسه فله وجود في العقل ، وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل ، وإحداث القديم غير داخل في العقل فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم ؟ وكذلك سواد الأبيض لا وجود له في العقل ، وكذلك قيام القاعد ، فكيف يقول له : قم وأنت قاعد ؟ فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب ، فإنه كما يشترط في المطلوب أن يكون معدوما في الأعيان يشترط أن يكون موجودا في الأذهان ، أي : في العقل ، حتى يكون إيجاده في الأعيان على وفقه في الأذهان فيكون طاعة وامتثالا أي : احتذاء لمثال ما في نفس الطالب ، فما [ ص: 71 ] لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود .

              فإن قيل : فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام ؟ قلنا : ذلك طلب مبني على الجهل ، وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا ، وهذا لا يتصور من الله تعالى . فإن قيل : فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الإيجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق .

              قلنا : نحن ندرك بالضرورة تفرقة بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن ادخل البيت ، وبين أن يقال : اطلع السماء ، أو يقال له : قم مع استدامة القعود ، أو اقلب السواد حركة والشجرة فرسا . إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن وقدرة بالإضافة إلى أحد هذه الأوامر دون البقية .

              ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا ; ولذلك جاز أن نقول : لا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، فإن استوت الأمور كلها فأي معنى لهذا الدعاء وأي معنى لهذه التفرقة الضرورية ؟ فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها وعلى الجملة سبب غموض هذا أن التكليف نوع خاص من كلام النفس وفي فهم أصل كلام النفس غموض ، فالتفريع عليه وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية