الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة .

              وهو فاسد لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة ، أعني الكتاب والسنة والعقل ، لا تفرق بين عصر وعصر . فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة ، ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين . ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة . ولهم شبهتان ، أضعفهما قولهم : الاعتماد على الخبر والآية ، وهو قوله تعالى : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } يتناول الذين نعتوا بالإيمان وهم الموجودون وقت نزول الآية ، فإن المعدوم لا يوصف بالإيمان ولا يكون له سبيل وقوله عليه السلام : { لا تجتمع أمتي على الخطأ } يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم وهم الموجودون .

              وهذا باطل ; إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والأنصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية ، فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الأمة ، ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك . وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع ، بل إجماع الصحابة بعد النبي حجة بالاتفاق ، وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية .

              الشبهة الثانية : أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الأمة ، وليس التابعون جميع الأمة فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن الأمة ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الأمة ولا يحرم الأخذ بقول الصحابي ، فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين فعدم وفاقهم أيضا يدفع لأنهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الأمة . قالوا : وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة فإنهم كل الأمة ، لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة ، فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة ، وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الأمة للتابعين .

              والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين ، ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة والتابعين ولا بعد أن استشهد حمزة وقد اعترفوا بصحة إجماع [ ص: 150 ] الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس ذلك إلا لأن الماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الأمة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت .

              وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة فقد قال قوم : يصير قول الصحابي مهجورا لأنهم كل الأمة وإن سلمنا - وهو الصحيح - فنقول : إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع ; إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه ، وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته ; لأنه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الأمة بل فتوى البعض .

              فإن قيل : إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما وإن قال به صحابي قبلهم وإن لم يكونوا كل الأمة ، فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم ولا يحرم خلافهم ; إذ خلاف بعض الأمة ليس بحرام ، أما أن تكون كلية الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض وجمع بين النفي والإثبات .

              قلنا : ليس بمتناقض ; لأن الكلية إنما تثبت بالإضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها ، فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الأمة إذا أجمعوا فيها ، أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته . وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى وأجمع الباقون على خلافه لا يكون ذلك إجماعا من الأمة ، ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب وتكون الكلية حاصلة بالإضافة .

              فإن قيل : إن كان في الأمة غائب لا ينعقد الإجماع دونه ، وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة ولا فتوى فيها ، لكن نقول لو كان حاضرا لكان له قول فيها فلا بد من موافقته ، فليكن الميت قبل التابعين كالغائب . قلنا : يبطل بالميت الأول من الصحابة ، فإن الإجماع انعقد دونه ولو كان غائبا لم ينعقد ; لأن الغائب في الحال ذو مذهب ورأي بالقوة فتمكن موافقته ومخالفته فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه بخلاف الميت فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق لا بالقوة ولا بالفعل بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف .

              فإن قيل : فما أجمع عليه التابعون يندفع بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل ، فإن لم ينقل فلعله خالف ، ولكن لم ينقل إلينا ، فلا يستيقن إجماع كل الأمة . قلنا : يبطل بالميت الأول من الصحابة ، فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه . وهذا التحقيق ، وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج ; إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله وموته قبل أن ينقل إلينا ، فيبطل إجماع الصحابة لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة ، وإنما أظهر الموافقة لسبب ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا .

              وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل الموت وإن لم ينقل إلينا ، فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر . فإن قيل : إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع . قلنا : والأصل عدم خوضه في الواقعة وعدم الخلاف والوفاق جميعا ، ومع أن الأصل العدم فالاحتمال لا ينتفي ، وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك ، ولكن يقال : لا يندفع الإجماع بكل شك .

              فإن قيل : في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة وإنما [ ص: 151 ] الشك في دوامها ، وههنا الشك في أصل الإجماع ; لأن الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم ، ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف ، فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع .

              قلنا : لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين ، وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية ، وما ذكروه يضاهي قول القائل : الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه ، فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة ، والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر ، فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة ، وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة فإنا لا نقول : صار كلية الباقين مشكوكا فيها هذا تمام الكلام في الركن الأول .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية