الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        ويستحب عند إرادة الإفتاء أن يستعيذ من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول : [ ص: 114 ] لا حول ولا قوة إلا بالله ، ويقول : رب اشرح لي صدري الآية ، ويستحب أن يكتب في أول فتواه : الحمد لله ، أو الله الموفق ، أو حسبنا الله ، أو حسبي الله ونحو ذلك ، نقل ذلك الصيمري عن كثيرين ، قال : وحذفه آخرون . قال : ولا يدع أن يختم جوابه بقوله : والله أعلم ، أو وبالله التوفيق ونحوه .

                                                                                                                                                                        قال : ولا يقبح أن يقول : الجواب عندنا ، أو الذي عندنا ، أو الذي نذهب إليه كذا ؛ لأنه من أهله قال : وإذا كان السائل قد أغفل الدعاء للمجيب ، أو الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الفتوى ، ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به ، ويكتب بعد : والله أعلم ، ونحوه : كتبه فلان ، أو فلان بن فلان الفلاني ، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو غيرهما ، ثم ينتسب إلى المذهب ، فيقول الشافعي أو الحنفي ونحوهما ، قال الصيمري : وإن كانت الفتوى تتعلق بالسلطان ، دعا له ، فقال : وعلى السلطان أو على ولي الأمر وفقه الله ، أو أصلحه ، أو سدده ، أو شد أزره ، ولا يقول : أطال الله بقاءه ، فإنه ليس من ألفاظ السلف .

                                                                                                                                                                        وقد نقل النحاس اتفاق العلماء على كراهية أطال الله بقاءك . وقد أوضحت هذه اللفظة وما يتعلق بها ويشبهها في آخر كتاب " الأذكار " .

                                                                                                                                                                        وينبغي أن يختصر جوابه ، ويكون بحيث يفهم للعامة فهما جليا ، قال الصيمري والخطيب وغيرهما : وإذا سئل عمن قال : أنا أصدق من محمد بن عبد الله ، أو الصلاة لغو ونحو هذه العبارات ، فلا يبادر بقوله : هذا [ ص: 115 ] حلال الدم ، أو عليه القتل ، بل يقول : إن ثبت هذا بإقراره ، أو ببينة ، استتابه السلطان ، فإن تاب ، قبلت توبته ، وإلا فعل كذا وكذا وأشبع القول فيه ، وإن سئل عن شيء يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض قال : يسأل القائل ، فإن قال : أردت كذا ، فالجواب كذا ، وإن قال : أردت كذا ، فالجواب كذا .

                                                                                                                                                                        وإذا سئل عمن قتل أو قلع سنا أو عينا ، احتاط في الجواب ، فيذكر الشروط التي يجب باجتماعها القصاص ، وإذا سئل عمن فعل ما يقتضي تعزيره ، ذكر ما يعزر به ، فيقول : ضربه السلطان ما بين كذا وكذا ، ولا يزاد على كذا ، وينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء ، ولا يدع بينهما فرجة مخافة أن يزيد السائل شيئا يفسد الجواب .

                                                                                                                                                                        وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة ، كتب على موضع الإلصاق ، وإذا ضاق آخر الورقة عن الجواب ، لم يكتبه في ورقة أخرى ، بل في ظهر هذه أو حاشيتها . وأيهما أولى ؟ فيه ثلاثة أوجه ، ثالثها : هما سواء ، والراجح أن حاشيتها أولى ، وبه قطع الصيمري وغيره ، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ، ووجوه الميل معروفة .

                                                                                                                                                                        ومنها أن يكتب ما له دون ما عليه ، وليس له أن يعلم أحدهما ما يدفع به حجة صاحبه ، وإذا ظهر له أن الجواب خلاف غرض المستفتي ، وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته ، اقتصر على مشافهته بالجواب ، ويجب عليه عند اجتماع الرقاع أن يقدم الأسبق فالأسبق ، كالقاضي وهذا فيما يجب فيه الإفتاء ، فإن تساووا وجهل السابق ، أقرع . والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة ، والمسافر الذي شد رحله ويتضرر بتخلفه عن رفقته إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يتضرر غيرهم تضررا ظاهرا ، فيقدم حينئذ بالسبق ، ثم القرعة ، ثم لا [ ص: 116 ] يقدم أحدا إلا في فتيا واحدة . قال الصيمري وغيره : إذا سئل عن ميراث ، فالعادة أن لا يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها مما يمنع الإرث ، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الأخوة والأخوات ، ولا بد أن يقول في الجواب : من أبوين أو أب أو أم ، وإذا سئل عن المنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان ، لا يقول : للزوجة الثمن ، ولا التسع ؛ لأنه لم يطلقه أحد من السلف ، بل يقول : لها الثمن عائلا ، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهما ، أو لها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين ، وإذا كان في المذكورين من لا يرث أفصح بسقوطه ، فقال : وسقط فلان ، فإن كان سقوطه في حال دون حال ، قال : وسقط فلان في هذه الحالة . ونحو ذلك ، لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال . قال : وينبغي أن يكون شديد الاحتراز في جواب المناسخات .

                                                                                                                                                                        قال الصيمري وغيره : وحسن أن يقول : تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا . قالوا : وإذا رأى في الرقعة فتوى غيره ممن هو أهل للإفتاء ، وخطه موافق لما عنده ، كتب تحته : الجواب صحيح ، أو : جوابي مثل هذا ، أو : بهذا أقول . وله أن يكتب الجواب بعبارة أخصر من عبارة السابق .

                                                                                                                                                                        وإن كان فيها خط من ليس بأهل ، قال الصيمري وغيره : لم يفت معه ؛ لأن ذلك تقرير للخطأ ، بل يضرب عليه ، وينهر المستفتي ، ويعرفه قبح ما فعله ، وأنه كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى .

                                                                                                                                                                        وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه ، سأل عنه ، فإن لم يعرفه ، فله الامتناع خوفا مما قلناه .

                                                                                                                                                                        والأولى أن يأمر صاحبها بإبدالها ، فإن أبى ، أجابه شفاها ، وإذا خاف فتنة من الضرب عليها ، ولم تكن فتياه خطأ ، امتنع من الإفتاء معه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 117 ] وهل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء ، نظر إن كان منتسبا إلى مذهب ، بني على وجهين ، حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا ؟ أحدهما : لا ؛ لأن المذهب لعارف الأدلة ، فعلى هذا له أن يستفتي من شاء ، وأصحهما عند القفال له مذهب ، فلا تجوز مخالفته .

                                                                                                                                                                        وإن لم يكن منتسبا ، بني على وجهين ، حكاهما ابن برهان بفتح الباء من أصحابنا في أن العامي هل يلزمه التقيد بمذهب معين ؟ أحدهما : لا ، فعلى هذا هل له أن يقلد من شاء أم يبحث عن أسد المذاهب ، فيقلد أهله وجهان ، كالبحث عن الأعلم .

                                                                                                                                                                        والثاني وبه قطع أبو الحسن إلكيا : يلزمه .

                                                                                                                                                                        وهو جار في كل من يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم ، لئلا يتلقط رخص المذاهب بخلاف العصر الأول ، ولم تكن مذاهب مدونة ، فيتلقط رخصها .

                                                                                                                                                                        فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شيء ، وليس له التمذهب بمجرد التشهي ، ولا بما وجد عليه أباه ، هذا كلام الأصحاب . والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب ، بل يستفتي من شاء ، أو من اتفق ، لكن من غير تلقط للرخص .

                                                                                                                                                                        ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه . وإذا استفتى وأفتاه المفتي ، فقال أبو المظفر السمعاني : لا يلزمه العمل به إلا بإلزامه ، قال : ويجوز أن يقال : يلزمه إذا أخذ في العمل [ ص: 118 ] به ، وقيل : يلزمه إذا وقع في نفسه صحته ، قال : وهذا أولى الأوجه ، والمختار ما نقله الخطيب وغيره ، أنه إذا لم يكن هناك مفت آخر ، لزمه بمجرد فتواه ، وإن لم تسكن نفسه ، وإن كان هناك آخر لم يلزمه بمجرد إفتائه ، إذ له أن يسأل غيره ، وحينئذ فقد يخالفه ، فيجيء فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتيين ، وينبغي للمستفتي أن يبدأ من المفتيين بالأسن الأعلم وبالأولى فالأولى فإن أراد جمعهم في رقعة ، وإن أراد إفرادهم في رقاع ، بدأ بمن شاء ، وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ، ويدعو في الورقة لمن يستفتيه ، ويدفع الورقة إلى المفتي منشورة ، ويأخذها منشورة ، فيريحه من نشرها وطيها .

                                                                                                                                                                        وإذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا في بلده ولا غيره ، ولا من ينقل حكمها ، قال الشيخ أبو عمرو : هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع ، والصحيح في كل ذلك أن لا تكليف ولا حكم في حقه أصلا ، فلا يؤاخذ إذا صاحب الواقعة شيء بصنعه .

                                                                                                                                                                        فهذا آخر النبذ التي يسر الله الكريم إلحاقها وهي وإن كانت طويلة بالنسبة إلى هذا المختصر فهي قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرته في شرح " المهذب " ، وموضع بسطها والزيادات والفروع هناك . وهذا الفصل مما يكثر الاحتياج إليه ، فلهذا بسطناه أدنى بسط ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية