الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        السبب السادس : الحرص على الشهادة بالمبادرة : اعلم أن الحقوق ضربان : ضرب لا تجوز المبادرة إلى الشهادة عليه ، وضرب يجوز ، وتسمى الشهادة على هذا الثاني على وجه المبادرة شهادة حسبة ، فحيث لا يجوز ، فالمبادر متهم ، فلا تقبل شهادته ، والمبادرة أن يشهد من غير تقدم دعوى ، فإن شهد بعد دعوى قبل أن يستشهد ، ردت شهادته أيضا على الأصح للتهمة ، وإذا رددناها ، ففي مصيره مجروحا وجهان ، الأصح لا ، وبه قطع أبو عاصم ، وظاهر هذا كون الخلاف في سقوط عدالته مطلقا ، ويؤيده أن القاضي أبا سعد الهروي ، قال : الوجهان مبنيان على أن المبادرة من الصغائر ، أم من الكبائر ، لكن منهم من [ ص: 243 ] يفهم كلامه اختصاص الخلاف برد تلك الشهادة وحدها إذا أعادها ، فقد قال البغوي : وإذا قلنا : يصير مجروحا لا يشترط استبراء حاله حتى لو شهد في حادثة أخرى تقبل ، فأشعر كلامه باختصار الخلاف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تقبل شهادة من احتبى وجلس في زاوية محتبيا لتحمل الشهادة ، ولا تحمل على الحرص ؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه ، وحكى الفوراني قولا قديما أنها لا تقبل ، وهو شاذ ، قال : وعلى المشهور يستحب أن يخبر الخصم أني شهدت عليك لئلا يبادر إلى تكذيبه ، فيعزره القاضي . ولو قال رجلان لثالث : توسط بيننا لنتحاسب ونتصادق ، فلا تشهد علينا بما يجري ، فهذا شرط باطل ، وعليه أن يشهد .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : ما تقبل فيه شهادة الحسبة ، وهو ما تمحض حقا لله - تعالى - ، أو كان له فيه حق متأكد لا يتأثر برضى الآدمي ، فمنه الطلاق ، وأما الخلع ، فأطلق البغوي المنع فيه ، وقال الإمام : يقبل في الفراق دون المال ، قال : ولا أبعد ثبوته تبعا ، ولا إثبات الفراق دون البينونة ، ومنه العتق والاستيلاد دون التدبير ، ويقبل في العتق بالتدبير ، ولا يقبل في الكتابة ، فإن أدى النجم الأخير ، شهد بالعتق .

                                                                                                                                                                        وفي شراء القريب وجهان ، أحدهما : تقبل شهادة الحسبة فيه لحق الله - تعالى - ، وأصحهما : لا ، لأنهم يشهدون بالملك . ومنه العفو عن القصاص ، والصحيح قبولها فيه ، ومنه الوصية والوقف إذا كانا لجهة عامة ، فإن كان لجهة خاصة ، فالأصح المنع ، ونقله الإمام عن الجمهور لتعلقه بحظوظ خاصة ، ومنه تحريم الرضاع والنسب وفي النسب وجه ، ومنه بقاء العدة وانقضاؤها ، وتحريم المصاهرة ، وكذا الزكوات والكفارات ، [ ص: 244 ] والبلوغ والإسلام ، والكفر والحدود التي هي حقوق لله تعالى ، كالزنى ، وقطع الطريق ، وكذا السرقة على الصحيح ، لكن الأفضل في الحدود الستر . ومنه الإحصان والتعديل . وأما ما هو حق آدمي ، كالقصاص ، وحد القذف والبيوع ، والأقارير ، فلا تقبل فيه شهادة الحسبة ، فإن لم يعلم صاحب الحق بالحق ، أخبره الشاهد حتى يدعي ويستشهده فليشهد ، وقيل : تقبل شهادة الحسبة في الدماء خاصة ، وقيل : تقبل في الأموال أيضا ، وقيل : تقبل إن لم يعلم المستحق بالحق ، والصحيح المنع مطلقا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما قبلت فيه شهادة الحسبة هل يسمع فيه دعوى الحسبة ؟ وجهان : أحدهما لا ، وبه قطع القفال في الفتاوى ؛ لأن الثبوت بالبينة وهي غنية عن الدعوى . وقال القاضي حسين : تسمع ؛ لأن البينة قد لا تساعد ، وقد يراد استخراج الحق بإقرار المدعى عليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        شهود الحسبة يجيئون إلى القاضي ، ويقولون : نشهد على فلان بكذا ، فأحضره لنشهد عليه ، فإن ابتدءوا ، وقالوا : فلان زنى فهم قذفة ، وفي الفتاوى : أنه لو جاء رجلان ، وشهدا بأن فلانا أخو فلانة من الرضاع ، لم يكف حتى يقولا : وهو يريد أن ينكحها ، وأنه لو شهد اثنان بطلاق ، وقضى القاضي بشهادتهما ، ثم جاء آخران يشهدان بأخوة بين المتناكحين ، لم تقبل هذه الشهادة ، إذ لا فائدة لها في الحال ، ولا بكونهما قد يتناكحان بعد ، وأن الشهادة على أنه أعتق عبده إنما [ ص: 245 ] تسمع إذا كان المشهود عليه يسترقه ، وهذه الصورة تفهمك أن شهادة الحسبة إنما تسمع عند الحاجة . ولو جاء عبدان لرجل ، فقالا : إن سيدنا أعتق أحدنا ، وقامت بينة بما يقولان ، سمعت ، وإن كانت الدعوى فاسدة ؛ لأن البينة على العتق مستغنية عن تقدم الدعوى .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية