الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : روى سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال : كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه في أصل نخلة . وتقدم عنه أنهم كانوا خمسة عشر . وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة وتقدم أن اسم سيدهم وردان . وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا . ففي هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة كما سيأتي بيان ذلك هناك . [ ص: 446 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في من وقفت على اسمه من الجن الذين اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إن اسم النفر السبعة أو التسعة على الاختلاف . فقال مجاهد كانوا سبعة ثلاثة من أهل حران وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم : حسى ومنسى وشاصر وماصر والأرد وإينان والأحقب .

                                                                                                                                                                                                                              رواه ابن أبي حاتم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال إسماعيل بن أبي زياد : هم تسعة : سليط وشاصر وخاضر وحسا ومسا والأرقم والأدرس وحاصر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن أبي معمر الأنصاري قال : بينا عمر بن عبد العزيز يمشي إلى مكة بفلاة من الأرض إذ رأى حية ميتة فقال علي بمحفار . فحفر له ولفه في خرقة ودفنه ، وإذا بهاتف يهتف لا يرونه : رحمة الله عليك يا سرق فأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تموت يا سرق في فلاة من الأرض فيدفنك خير أمتي . فقال عمر : من أنت يرحمك الله؟ قال : أنا رجل من الجن ، وهذا سرق ولم يبق ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم أحد من الجن غيري وغيره ، وأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تموت يا سرق بفلاة من الأرض ويدفنك خير أمتي .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي - بسين مهملة مفتوحة فموحدة فمثناة تحتية- عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه ثم انقشع فإذا حية قتيلة ، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها ، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان : أيكما دفن عمرو بن جابر فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر قالتا : إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه ، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو بن جابر وهو الحية التي رأيتم ، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن عباد بن موسى العكلي ، حدثنا المطلب بن زياد الثقفي ، حدثنا أبو إسحاق أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في مسير لهم وأن حيتين اقتتلتا فقتلت إحداهما الأخرى فعجبوا من طيب ريحها وحسنها ، فقام بعضهم فلفها في خرقة ثم دفنها ، فإذا قوم يقولون السلام عليكم- لا يرونهم- إنكم دفنتم عمرا إن مسلمتنا وكفارنا اقتتلوا فقتل الكافر المسلم الذي دفنتم ، وهو من الرهط الذين أسلموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند والطبراني والحاكم عن صفوان بن [ ص: 447 ] المعطل نحوه ، وفيه : أنه كان آخر السبعة الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن جهور ، حدثنا ابن أبي إياس ، وعن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه ، عن معاذ بن عبد الله بن معمر قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء رجل فقال : ألا أخبرك يا أمير المؤمنين عجبا؟ بينا أنا بفلاة كذا وكذا إذ إعصاران قد أقبلا أحدهما من ها هنا والآخر من ها هنا فالتقيا فتعاركا ثم تفرقا وإذا أحدهما أكبر من الآخر فجئت معتركهما : فإذا من الحيات شيء ما رأت عيناي مثله قط ، وإذا ريح المسك من بعضها ، وإذا حية صفراء ميتة فقمت فقلبت الحيات كيما أنظر من أيها هو فإذا ذلك من حية صفراء دقيقة ، فظننت أن ذلك لخير فيها فلففتها بعمامتي ودفنتها ، فبينما أنا أمشي ناداني مناد ولا أراه : يا عبد الله ما هذا الذي صنعت فأخبرته بالذي رأيت ووجدت ، فقال : إنك قد هديت ، ذانك حيان من الجن بنو شيبان وبنو أقيش ، التقوا فاقتتلوا وكان بينهم ما قد رأيت واستشهد الذي رأيت ، وكان أحد الذين استمعوا الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا وأبو نعيم من طريق بشر بن الوليد الكندي حدثنا كثير بن عبد الله أبو هاشم الناجي ، قال دخلنا على أبي رجاء العطاردي فسألناه : هل عندك علم من الجن ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فتبسم فقال : أخبركم بالذي رأيت وبالذي سمعت ، كنا في سفر حتى إذا نزلنا على الماء فضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل ، فإذا أنا بحية دخلت الخباء وهي تضطرب فعمدت إلى إداوتي فنضحت عليها من الماء فسكنت ، فلما صلينا العصر ماتت ، فعمدت إلى عيبتي فأخرجت منها خرقة بيضاء فلففتها فيها وحفرت لها ودفنتها ، وسرنا بقية يومنا وليلتنا ، حتى إذ أصبحنا ونزلنا على الماء وضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل فإذا أنا بأصوات : السلام عليكم . مرتين لا واحد ولا عشرة ولا مائة ولا ألف أكثر من ذلك ، فقلت : من أنتم؟ قالوا : الجن بارك الله عليك قد صنعت ما لا نستطيع أن نجازيك . قلت : ما صنعت إليكم؟ قالوا : إن الحية التي ماتت عندك كان آخر من بقي ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم من الجن .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه البارودي- بالموحدة- في معرفة الصحابة من طريق آخر وفيه : أنه آخر من بقي من النفر الذين كانوا يستمعون القرآن .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ في الإصابة : هذه القصة مغايرة لما قبلها وقد أثبت لكل منها الآخرية ، فيمكن أن الأول مقيد بالتسعة ، والثاني بمن استمع بناء على أن الاستماع كان من طائفتين مثلا .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وقد وقع في قصة سرق أنه آخر من بايع ، فتكون آخريته مقيدة بالمبايعة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو نعيم في الدلائل عن إبراهيم النخعي قال : خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا ببعض الطريق إذا هم بحية تتثنى على الطريق ، أبيض ينفح منه ريح المسك ، فقلت لأصحابي امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير أمر هذه الحية . فما [ ص: 448 ] لبثت أن ماتت ، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ، ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها ، ثم أدركت أصحابي . فوالله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن : أيكم دفن عمرا ؟ قلنا : ومن عمرو ؟ قالت : أيكم دفن الحية؟ قلت : أنا . قالت : أما والله لقد دفنت صواما قواما يأمر بما أنزل الله ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة . فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجنا ، ثم مررت بعمر بن الخطاب بالمدينة فأنبأته بأمر الحية فقال : صدقت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن عباد حدثني محمد بن زياد ، حدثني أبو مصلح الأسدي ، حدثني يحيى بن صالح ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم ، عن حذيفة العدوي قال : خرج حاطب بن أبي بلتعة من حائط له يريد النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالمسحاء التفت إليه عجاجتان ثم أجلتا عن حية كيف الحوار ، يعني الجلد ، فنزل ففحص له بسية قوسه ثم واراه ، فلما كان الليل إذا هاتف يهتف به :


                                                                                                                                                                                                                              يا أيها الراكب المزجي مطيته اربع عليك سلام الواحد الصمد     رأيت عمرا وقد ألقى كلاكله
                                                                                                                                                                                                                              دون العشيرة كالضرغامة الأسد

                                                                                                                                                                                                                              فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ذاك عمرو بن الجوماية وافد نصيبين لقيه محصن بن جوشن النصراني فقتله ، أما إني قد رأيتها- يعني نصيبين - فرفها إلي جبريل ، فسألت الله تعالى أن يعذب نهرها ويطيب ثمرها ويكثر مطرها
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              والآثار في هذا المعنى كثيرة ذكر طرفا منها الشيخ رحمه الله تعالى في كتابه «لقط المرجان في أخبار الجان» .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنكر ابن عباس رضي الله عنهما اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن . ففي الصحيحين عنه قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم؟ قالوا : قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب .

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : ما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها . فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد [ ص: 449 ] فأنزل الله تعالى على نبيه : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن [الجن : 1] وإنما أوحي إليه قول الجن .


                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى : وهذا الذي حكاه ابن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ولم يرهم ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معهم وقرأ عليهم القرآن كما رواه مسلم عن ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                              ويؤيد قول البيهقي أثر كعب السابق أول الباب .

                                                                                                                                                                                                                              قال البيهقي : وابن مسعود قد حفظ القصتين فرواهما .

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره : أثر ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن ورآهم ، فكان ذلك مقدما على نفي ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء عن ابن عباس ما يوافق ابن مسعود . فروى ابن جرير بسند جيد قوي عن ابن عباس في قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن [الأحقاف : 29] الآية . قال : كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم .

                                                                                                                                                                                                                              فهذا يدل على أن ابن عباس روى القصتين كابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال الحافظ : لا يعكر على قولنا حديث ابن عباس كان في أول البعثة ، كما تقرر قوله أنهم رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فيحتمل أن يكون ذلك بعد فرض الصلوات ليلة الإسراء لأنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلي قطعا وكذلك أصحابه ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا فيصح هذا على قول من قال إن الفرض كان أولا صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والحجة فيه قوله تعالى : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ق : 39] ونحوها من الآيات . فيكون إطلاق صلاة الفجر في هذا الحديث باعتبار الزمان لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء فتكون قصة الجن متقدمة من أول البعثة .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أخرج الترمذي والطبري هذا الحديث بسياق سالم عن الإشكال الذي ذكرته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت الجن تصعد إلى السماء يستمعون الوحي . وتقدم هو وأحاديث أخر تدل على أن هذه القصة وقعت أول البعثة وهو الذي تظافرت به الأخبار وهو المعتمد .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية