الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 29 ] مسألة كما زعم قوم أن بعض الأسماء استعمله الشارع في غير معناه في اللغة ، زعم آخرون أنه ورد فيه كلمات ليست بصيغ عربية ، وهي مسألة المعرب - بتشديد الراء وفتحها - ما أصله عجمي ثم ، عرب استعملته العرب على نحو استعمالها لكلامها ، فقيل : معرب متوسطا بين العجمي والعربي ، وهو عكس المجاز ; لأنه استعمال المعنى بغير اللفظ الموضوع له في تلك اللغة ، ولا خلاف في أنه واقع في اللغة ، وفي وقوعه في القرآن خلاف مبني على إثبات الحقيقة الشرعية ، فمن أثبتها وجعلها مجازات لغوية ، لا يلزم من قوله أن يكون في القرآن غير عربي . وقال ابن القشيري : ليس هذا الخلاف مع من يقول في الشريعة أسماء منقولة من اللغة إلى الشرع بل ذاك فن آخر ، وقد أثبته جماعة منهم ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم ، واختاره ابن الحاجب ، ونفاه الأكثرون ، منهم الإمام وأتباعه ، والقاضي أبو بكر وأبو بكر القفال كما رأيته في كتابه ، وأبو الوليد الباجي ، وأبو إسحاق الشيرازي ، وابن السمعاني وابن القشيري قال : وعليه المحققون . قال ابن فارس في فقه اللغة " : وهو قول أهل العربية ، وقال ابن برهان : وعزي إلى الشافعي . قلت : نص عليه الشافعي في " الرسالة " في الباب الخامس ، فقال : وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى له ، فقال منهم قائل : إن في القرآن عربيا وأعجميا ، والقرآن يدل على أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ، ووجدنا قائل هذا القول من قبل [ ص: 30 ] ذلك منه تقليدا ، وتركا للمسألة له عن حجة ، ومسألة غيره ممن خالفه ، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم ، والله يغفر لنا ولهم . ا هـ .

                                                      وقد نقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه " في أصول الفقه عن نص الشافعي في " الرسالة " ، ثم قال : الذي عليه الشافعي وعامة أهل العلم أن القرآن كله بلسان العرب ، وليس فيه شيء غير العربي ، وهو قول المتكلمين بأسرهم ثم نصره . واعلم أن المثبتين له كبار ، فيحتاج إلى تأويل كلامهم ، فقال الشافعي في " الرسالة " : لعل قائله أراد أن فيه ما يجهل معناه بعض العرب ، ولهذا قال عمر لما سمع { فاكهة وأبا } : لا أدرى ما الأب ، وقال ابن عباس : ما كنت أدري معنى { افتح بيننا } حتى سمعت أعرابية تقول : تعال أفاتحك إلى القاضي . ولا يلزم من كونه غير معلوم لواحد أو اثنين أن لا يكون عربيا . وقال غيره : أراد أعجميا باعتبار أن أصل استعمالها في كلام العجم ، فحولتها العرب إلى لغتهم ، وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه " ، فنقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال : من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول ، ونقل عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم أن فيه من غير لسان العرب . مثل : " سجيل " " ومشكاة " " واليم " " و " الطور " و " أباريق " و " إستبرق " وغير ذلك .

                                                      [ ص: 31 ] ثم قال : وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة ، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب ، وذهب هو إلى غيره ، وكلاهما مصيب إن شاء الله - تعالى ، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ، فقال أولئك على الأصل ، ثم لفظت به العرب بألسنتها ، فعربتها فصار عربيا بتعريبها إياه ، فهي عربية في هذه الحال أعجمية الأصل ، فهذا القول يصدق القولين جميعا . ا هـ .

                                                      وقال ابن خروف النحوي : جميعها من كلام العرب ولم يختلف أحد من أرباب اللسان أن الأمر كذلك ، وأجمعوا على أنها أعجميات تلقتها العرب وعملت بها ، وأن كتاب الله ملآن من ذلك مثل : " إبراهيم " ، " وإسحاق " ، " ويعقوب " ، " وجبريل " ، " ويوسف " ، " ويونس " ، وغير ذلك ، وقد نص عليه سيبويه في مواضع من " كتابه " فيما لا ينصرف ، وفي النسب والأمثلة ، وأبو عبيدة وإن أنكر ذلك في القرآن فهو محجوج ، فإنه مجمع معهم على أن كلام العرب ملآن من ذلك ، والأعلام أعجمية ، ولا يمكن أن يكون في الكلام أعجمية ، وفي القرآن عربية . وحاصله أن ما في القرآن من الألفاظ الأعجمية معربة فصيحة ، ولم يدع أحد أن في القرآن كلمة واحدة أعجمية لا تعربها العرب ، واستدلالهم بالأعلام ذكره ابن الحاجب وشيخه الإبياري ، ويرد عليهم بأنه ليس في محل الخلاف ، فإن الخلاف في غير الأعلام كاللجام والفرند .

                                                      أما فيها فلا ، ولهذا اتفقوا على منع صرف نحو إبراهيم للعجمية والعلمية . [ ص: 32 ]

                                                      تنبيه قد سبق أنه لا خلاف في وقوع المعرب في اللغة ، وأطلقوا هذا إطلاقا ، وذكر حازم في " منهاج البلغاء " تقسيما حسنا ، فقال : إن كان اللفظ غير موجود في كلام العرب فلا يخلو من أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا ، فإن كان فعلا أو حرفا ، فلا يجوز إيقاعه ألبتة فيما أجري من الكلام على قوانين العرب ومجاري كلامها ، وإن كان اسما فلا يخلو أن يكون لمسماه اسم في كلام العرب أو لا ، فإن كان فلا يخلوا إما أن يكون الاسمان العربي والعجمي علمين على المسمى أو نكرتين ، فإن كانا علمين جاز تعريب العجمي ، وإن كانا نكرتين فلا يجوز استعمال غير العربي ; إذ لا يجوز لغير عربي أن يعرب غير الأعلام . وأعني بالتعريب : أن يستعمل فيما أجرى من الكلام على قوانين كلام العرب بأن يلحقه لواحق الألفاظ العربية ، فأما إذا لم يكن للمسمى اسم في كلام العرب فجائز أن يستعمل الاسم الذي ليس بعربي في الدلالة على ذلك الشيء حيث يحتاج إلى ذكره سواء كان ذلك الاسم من وضع من لا يتكلم باللسان العربي على وجهه ، أو كان واقفا في بعض ألسن العجم بعد أن يكون ذلك الاسم يعرفه أهل زمان من يريد استعماله ، وسواء كان ذلك معرفة أو نكرة ، وقد تقدم أن غير العلم الذي ليس بعربي لا يجوز تعريبه مع وجدان البدل منه في كلام العرب ، وإن كانت العرب قد عربت أسماء أعجمية نكرات ، فذلك شيء مقصور عليها ، ولعلهم أيضا إنما عربوها ، وليس في كلامهم ما يقوم مقامها ، فيكون وجه تعريبهم إياها الوجه الذي استنسبوا معه للمحدث أن يعرب النكرة حيث لا يجد بدلا منها .

                                                      [ ص: 33 ] فأما العلم فسائغ للمحدث أن يستعمله فيما يعرب من كلامه وجد بدلا منه أم لا . فائدة قال الثعالبي في " فقه اللغة " : فصل في ذكر أسماء قائمة في لغة العرب والفرس على لفظ واحد : " التنور " ، " الخمير " ، " الرمان " ، " اللبن " ، " الدينار " " الدرهم " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية