الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              3943 493 \ 3790 وعن جويرية - وهو ابن أسماء - عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى مالك، ولم يذكر وإلا فقد عتق منه ما عتق .

                                                              وقال بعضهم: أيوب قد شك في قوله: "فقد عتق منه ما عتق " على ما تقدم.

                                                              قيل له: شك الشاك لا يؤثر في رواية من لم يشك، لاسيما إذا كان الذي لا يشك أحفظ من الشاك. وقد رواه الإمام مالك رضي الله عنه عن نافع، كما قدمناه، ولم يشك. وقد رواه أيضا عبيد الله بن عمر العمري عن نافع، كما قدمناه، ولم يشك.

                                                              وقد رواه أيضا: جرير بن حازم عن نافع، وفيه: وإلا فقد عتق منه ما عتق ولم [ ص: 26 ] يشك. وأخرجه مسلم في "صحيحه" .

                                                              وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: لا أحسب عالما بالحديث ورواته يشكفي أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب، لأنه كان ألزم له من أيوب. ولمالك فضل حفظه لحديث أصحابه خاصة. ولو استويا في الحفظ فشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه لم يكن في هذا موضع لأن يغلط به الذي لم يشك. إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو يأتي بشيء في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ منه، ثم هم عدد وهو منفرد. وقد وافق مالكا في زيادة: وإلا فقد عتق منه ما عتق يعني غيره من أصحاب نافع.

                                                              وقال البيهقي: وقد تابع مالكا على روايته عن نافع: أثبت آل عمر في زمانه وأحفظهم: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. هذا آخر كلامه.

                                                              وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: وزاد فيه بعضهم: ورق منه ما رق .

                                                              وهذا الحديث- الذي أشار إليه الإمام الشافعي- أخرجه الدارقطني في "سننه " .

                                                              [ ص: 27 ] وقال في كتاب "الأفراد" : تفرد به إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب عنه. يعني عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. هذا آخر كلامه.

                                                              وإسماعيل هذا مرادي مصري، كنيته أبو يزيد، روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.

                                                              ويحيى بن أيوب احتج به مسلم واستشهد به البخاري.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: قالوا وقد قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر.

                                                              وقال أيوب السختياني: كانت لمالك حلقة في حياة نافع.

                                                              وقال ابن المديني: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يقدم على مالك أحدا.

                                                              وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: مالك أحب إليك من نافع، أو عبيد الله بن عمر ؟ قال: مالك، فقلت: فأيوب السختياني ؟ قال: مالك.

                                                              [ ص: 28 ] وقال الإمام أحمد ويحيى بن معين: كان مالك من أثبت الناس في حديثه.

                                                              قال الشافعي لمناظره في المسألة - وقد احتج عليه بحديث أبي هريرة في الاستسعاء - وعلينا أن نصير إلى أثبت الحديثين ؟ قال: نعم، قلت: فمع حديث نافع حديث عمران بن حصين بإبطال الاستسعاء.

                                                              فقال بعضهم: نناظرك في قولنا وقولك. فقلت: أوللمناظرة موضع مع ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرح الاستسعاء في حديث نافع وعمران ؟.

                                                              قال: إنا نقول: إن أيوب قال: إنما قال نافع : "فقد عتق منه ما عتق" وربما لم يقله، وأكبر ظني: أنه شيء كان يقوله نافع برأيه. فذكر ما تقدم من حفظ مالك وترجيح حديثه على أيوب.

                                                              قال أصحاب السعاية: مالك ومن معه رووا الحديث كما سمعوه، ولا ريب أن نافعا كان يذكر هذه الزيادة متصلة بالحديث، فأداه أصحابه كما سمعوه يذكرها.

                                                              [ ص: 29 ] وأما أيوب فاطلع على زيادة علم لم يذكروها ولا نفوها، وإنما أدوا لفظ نافع كما سمعوه يسوق الحديث سياقة واحدة فأدوا ما حفظوه، وأيوب اطلع على تفصيل وتمييز في الحديث، فكلهم صادق في روايته، والحكم لمن فصل وميز. وهذا الشك منه هو عين الحفظ، فإنه سمع كما سمعه الجماعة وفصل الزيادة وميزها، فقال: "أكبر ظني أنه شيء كان يقوله نافع برأيه"، وسمعه مرة أو مرارا يذكره متصلا بالحديث، فشك هل هو من قوله أو من قول النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                              وإنما يفيد تقديم عبيد الله ومالك عليه في الحفظ أن لو خالفهم، فإذا أدى ما أدوه وروى ما رووه بعينه واطلع على زيادة لم يذكروها، كان الأخذ بروايته أولى، لأنهم لم يقولوا: قال نافع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإلا فقد عتق منه ما عتق ، وإنما أدرجوها في الحديث إدراجا كما سمعوه، وفصل أيوب هذا الإدراج فحفظ شيئا لم يحفظوه.

                                                              قالوا: وعلى تقدير الجزم بأنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا تناقض حديث الاستسعاء، فإن قوله : وإلا فقد عتق منه ما عتق ، معناه: وإن لم يكن لمعتق البعض مال يبلغ ثمن باقيه عتق من العبد بإعتاقه القدر الذي أعتقه.

                                                              وأما الجزء الباقي فمسكوت عنه ولم يذكر حكمه، فجاء بيان ذكر حكمه في حديث أبي هريرة، فتضمن حديث أبي هريرة ما في منطوق حديث ابن عمر، وزياد بيان ما سكت عنه، ولا تنافي بين الحديثين.

                                                              وهذا ظاهر على أحد القولين، لأن باب السعاية أنه لا يعتق جميعه بعتق الشريك، وإنما يعتق بعد الأداء بالسعاية بخلاف الجزء الذي قد أعتقه، فإنه قد تنجز عتقه وعتق الجزء الآخر منتظر موقوف على أداء ما استسعى عليه [ ص: 30 ] كالكتابة، ومعلوم أن قوله: وإلا فقد عتق منه ما عتق لا ينافي عتقه بالسعاية على هذا الوجه.

                                                              فغاية حديث ابن عمر أن يدل بمفهومه، فإن قوله : "عتق منه ما عتق"، منطوقه وقوع العتق في الجزء المباشر به، ومفهومه انتفاء هذا العتق عن الجزء الآخر، والمفهوم قد يكون فيه تفصيل، فيعتق في حال ولا يعتق في حال، وكذا يقول أصحاب السعاية في أحد قوليهم: يعتق بأداء السعاية، ولا يتنجز عتقه قبلها.

                                                              قالوا: وعلى هذا فقد وفينا جميع الأحاديث مقتضاها، وعملنا بها كلها، ولم نترك بعضها لبعض.

                                                              قالوا: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى امتناع الشركة بين الله وعبده في رقبة المملوك بقوله: ليس لله شريك ، وهذا تعليل لتكميل الحرية، ولهذا أخرج الجزء المملوك عن مالكه قهرا، إذا كان الشريك المعتق موسرا، لرغبته في تكميل الحرية المنافية للشركة بين الله وعبده في رقبة المملوك.

                                                              فإيجاب السعاية على العبد لتكميل حريته إذا كان قادرا عليها أولى، لأن الشارع إذا أوجب على غير مالكه أن يستفك بقيته من الرق الذي هو أثر الكفر، فلأن يوجب على العبد أن يستفك بقية رقبته مع كسبه وقدرته [ق215] على تخليص نفسه أولى وأحرى.

                                                              وهذا غاية الوضوح، وهو شبه الأسير إذا قدر على تخليص نفسه [ ص: 31 ] من الأسر، بل هذا أولى، لأنه قد صار فيه جزء لله لا يملكه أحد، وقد أمكنه أن يصير نفسه عبدا محضا لله.

                                                              والشارع متطلع إلى تكميل الأملاك للمالك الواحد، ورفع ضرر الشركة، ولهذا جوز للشريك انتزاع الشقص المشفوع من المشتري قهرا، ليكمل الملك له، ويزول عنه ضرر الشركة، مع تساوي المالكين.

                                                              فما الظن إذا كان الخالق سبحانه مالك الشقص، والمخلوق مالك البقية ؟ أليس هذا أولى بانتزاع ملك المخلوق وتعويضه منه، ليكمل ملك المالك الحق؟ ولا سبيل إلى إبطال الجزء الذي هو ملك لله، فتعين انتزاع حصة العبد وتعويضه عنها.

                                                              فهذا مأخذ الفريقين في المسألة من جهة الأثر والنظر، والله الموفق للصواب.




                                                              الخدمات العلمية