الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              4373 [ ص: 95 ] 528 \ 4208 وعنها رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية، تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها... ، وقص نحو حديث الليث سعنس الحديث الذي قبله-، قال : فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها.

                                                              وأخرجه مسلم .

                                                              قال أبو داود: روى ابن وهب، هذا الحديث عن يونس، عن الزهري، وقال فيهكما قال الليث: إن امرأة سرقت في غزوة الفتح . وحديث ابن وهب هذا الذي علقه أبو داود، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي .

                                                              وقال أيضا: رواه الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، بإسناده، فقال: "استعارت امرأة". وهذا الذي علقه أيضا قد ذكره البخاري تعليقا، ولم يذكر لفظه.

                                                              وقال أبو داود: وروى مسعود بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الخبر، قال: سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا الذي علقه أيضا قد أخرجه ابن ماجه ، وفيه ابن إسحاق.

                                                              وقال أيضا: ورواه أبو الزبير، عن جابر: أن امرأة سرقت فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                              [ ص: 96 ] وذكر مسلم في "صحيحه " والنسائي في "سننه " من حديث أبي الزبير، عن جابر: "فعاذت بأم سلمة". وهذا أولى ، وقيل: يحتمل أن تكون عاذت بهما .

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله : وهذا الحديث قد ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق.

                                                              وأعل بعض الناس الحديث بأن معمرا تفرد من بين سائر الرواة بذكر " العارية " في هذا الحديث، وأن الليث، ويونس، وأيوب بن موسى، رووه، عن الزهري، وقالوا : " سرقت " ومعمر لا يقاومهم.

                                                              قالوا: ولو ثبت، فذكر وصف جحد العارية للتعريف المجرد، لا أنه سبب القطع.

                                                              فأما تعليله بما ذكر فباطل:

                                                              فقد رواه أبو مالك الجنبي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: [ ص: 97 ] أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ على القوم "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال، فخذ بيدها فاقطعها . ذكره النسائي .

                                                              ورواه شعيب بن إسحاق، عن عبيد الله، عن نافع، بنحوه سواء، ذكره النسائي أيضا وقال فيه: لتتب هذه المرأة ولتؤدي ما عندها مرارا، فلم تفعل، فأمر بها فقطعت.

                                                              وهو يبطل قول من قال: إن ذكر هذا الوصف للتعريف المجرد.

                                                              ورواه سفيان، عن أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة ، عن عائشة قالت: كانت مخزومية تستعير متاعا وتجحده، فرفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم فيها، فقال: لو كانت فاطمة لقطعت يدها ، ذكره النسائي.

                                                              ورواه بشر بن شعيب، أخبرني أبي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: استعارت امرأة على ألسنة أناس يعرفون- وهي لا تعرف- حليا، فباعته وأخذت ثمنه، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث وقال في آخره: ثم قطع تلك المرأة . ذكره النسائي أيضا.

                                                              ورواه هشام، عن قتادة، عن سعيد بن يزيد، عن سعيد بن المسيب: أن [ ص: 98 ] امرأة من بني مخزوم، استعارت حليا على لسان أناس فجحدته، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت . ذكره النسائي أيضا.

                                                              فقد صح الحديث ولله الحمد.

                                                              ولا تنافي بين ذكر جحد العارية، وبين السرقة، فإن ذلك داخل في اسم السرقة.

                                                              فإن هؤلاء الذين قالوا: "إنها جحدت العارية"، وذكروا أن قطعها لهذا السبب قالوا: "إنها سرقت "، فأطلقوا على ذلك اسم السرقة، فثبت لغة أن فاعل ذلك سارق، وثبت شرعا أن حده قطع اليد.

                                                              وهذه الطريقة أولى من سلوك طريقة القياس في اللغة، فيثبت كون الخائن سارقا لغة، قياسا على السارق، ثم يثبت الحكم فيه.

                                                              وعلى ما ذكرناه يكون تناول اسم السارق للجاحد لغة، بدليل تسمية الصحابة له سارقا.

                                                              ونظير هذا سواء: ما تقدم من تسمية نبيذ التمر وغيره خمرا، لغة لا قياسا، وكذلك تسمية النباش سارقا.

                                                              وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر; فكلام في غاية الفساد، لو صح مثله -وحاشا وكلا - لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف .

                                                              وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردون بمثلها السنن، وإنما [ ص: 99 ] يسلكها بعض المقلدين من الأتباع.

                                                              ولو ثبت أن جاحد العارية لا يسمى سارقا لكان قطعه بهذا الحديث جاريا على وفق القياس، فإن ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر، إذ يمكن الاحتراز من السارق بالإحراز والحفظ.

                                                              وأما العارية: فالحاجة الشديدة التي تبلغ الضرورة ماسة إليها، وحاجة الناس فيما بينهم إليها من أشد الحاجات، ولهذا ذهب من ذهب [من] العلماء إلى وجوبها، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين، وأحد القولين في مذهب أحمد.

                                                              فترتيب القطع على جاحدها طريق إلى حفظ أموال الناس، وترك باب هذا المعروف مفتوحا.

                                                              وأما إذا علم أن الجاحد لا يقطع فإنه يفضي إلى سد باب العارية في الغالب.

                                                              وسر المسألة: أن السارق إنما قطع دون المنتهب والمختلس; لأنه لا يمكن التحرز منه، بخلاف المنتهب والمختلس، فإنه إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المالك.

                                                              وقد ذكرنا أن العارية فيما بين الناس أمر تدعو إليه الحاجة، فلا يمكن سده والاحتراز منه، فكان قطع اليد في جنايته، كقطعها في جناية السرقة، وبالله التوفيق.




                                                              الخدمات العلمية