الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومرور مار في الصحراء أو في مسجد كبير بموضع سجوده ) في الأصح ( أو ) مروره ( بين يديه ) إلى حائط القبلة ( في ) بيت و ( مسجد ) صغير ، فإنه كبقعة واحدة ( مطلقا ) ولو امرأة أو كلبا ( أو ) مروره ( أسفل من الدكان أمام المصلي لو كان يصلي عليها ) [ ص: 635 ] أي الدكان ( بشرط محاذاة بعض أعضاء المار بعض أعضائه ، وكذا سطح وسرير وكل مرتفع ) دون قامة المار وقيل دون السترة كما في غرر الأذكار ( وإن أثم المار ) [ ص: 636 ] لحديث البزار " { لو يعلم المار ماذا عليه من الوزر لوقف أربعين خريفا } " ( في ذلك ) المرور لو بلا حائل ولو ستارة ترتفع إذا سجد وتعود إذا قام ولو كان فرجة فللداخل أن يمر على رقبة من لم يسدها لأنه أسقط حرمة نفسه فتنبه

التالي السابق


( قوله بموضع سجوده ) أي من موضع قدمه إلى موضع سجوده كما في الدرر ، وهذا مع القيود التي بعده إنما هو للإثم ، وإلا فالفساد منتف مطلقا ( قوله في الأصح ) هو ما اختاره شمس الأئمة وقاضي خان وصاحب الهداية واستحسنه في المحيط وصححه الزيلعي ، ومقابله ما صححه التمرتاشي وصاحب البدائع واختاره فخر الإسلام ورجحه في النهاية والفتح أنه قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع أي راميا ببصره إلى موضع سجوده ; وأرجع في العناية الأول إلى الثاني بحمل موضع السجود على القريب منه .

وخالفه في البحر وصحح الأول ، وكتبت فيما علقته عليه عن التجنيس ما يدل على ما في العناية فراجعه ( قوله إلى حائط القبلة ) أي من موضع قدميه إلى الحائط إن لم يكن له سترة ، فلو كانت لا يضر المرور وراءها على ما يأتي بيانه ( قوله في بيت ) ظاهره ولو كبيرا . وفي القهستاني : وينبغي أن يدخل فيه أي في حكم المسجد الصغير الدار والبيت ( قوله ومسجد صغير ) هو أقل من ستين ذراعا ، وقيل من أربعين ، وهو المختار كما أشار إليه في الجواهر قهستاني ( قوله فإنه كبقعة واحدة ) أي من حيث إنه لم يجعل الفاصل فيه بقدر صفين مانعا من الاقتداء تنزيلا له منزلة مكان واحد ، بخلاف المسجد الكبير فإنه جعل فيه مانعا فكذا هنا يجعل جميع ما بين يدي المصلي إلى حائط القبلة مكانا واحدا ، بخلاف المسجد الكبير والصحراء فإنه لو جعل كذلك لزم الحرج على المارة ، فاقتصر على موضع السجود ، هذا ما ظهر لي في تقرير هذا المحل .

( قوله ولو امرأة أو كلبا ) بيان للإطلاق ، وأشار به إلى الرد على الظاهرية بقولهم : يقطع الصلاة مرور المرأة والكلب والحمار . وعلى أحمد في الكلب الأسود وإلى أن ما روي في ذلك منسوخ كما حققه في الحلية ( قوله أو مروره إلخ ) مرفوع بالعطف على مرور مار : أي لا يفسدها أيضا مروره ذلك وإن أثم المار ، فقوله بشرط إلخ قيد للإثم كما تقدم . قال القهستاني : والدكان الموضع المرتفع كالسطح والسرير وهو بالضم والتشديد في الأصل [ ص: 635 ] فارسي معرب كما في الصحاح ، أو عربي ; من دكنت المتاع : إذا نضت بعضه فوق بعض كما في المقاييس . ا هـ . ( قوله بعض أعضاء المار إلخ ) قال في شرح المنية : لا يخفى أن ليس المراد محاذاة أعضاء المار جميع أعضاء المصلي فإنه لا يتأتى إلا إذا اتحد مكان المرور ومكان الصلاة في العلو والتسفل بل بعض الأعضاء بعضا ، وهو يصدق على محاذاة رأس المار قدمي المصلي ا هـ لكن في القهستاني : ومحاذاة الأعضاء للأعضاء يستوي فيه جميع أعضاء المار هو الصحيح ، كما في التتمة ; وأعضاء المصلي كلها كما قاله بعضهم أو أكثرها كما قاله آخرون كما في الكرماني . وفيه إشعار بأنه لو حاذى أقلها أو نصفها لم يكره وفي الزاد أنه يكره إذا حاذى نصفه الأسفل النصف الأعلى من المصلي كما إذا كان المار على فرس ا هـ تأمل ( قوله وقيل دون السترة ) أي دون ذراع . قال في البحر : وهو غلط لأنه لو كان كذلك لما كره مرور الراكب ا هـ ومثله في الفتح ( قوله وإن أثم المار ) مبالغة على عدم الفساد لأن الإثم لا يستلزم الفساد ، وظاهره أنه يأثم وإن لم يكن للمصلي سترة وسنذكر ما يفيده أيضا ، وأنه لا إثم على المصلي لكن قال في الحلية : وقد أفاد بعض الفقهاء أن هنا صورا أربعا : الأولى : أن يكون للمار مندوحة عن المرور بين يدي المصلي ولم يتعرض المصلي لذلك ، فيختص المار بالإثم إن مر . الثانية مقابلتها : وهي أن يكون المصلي تعرض للمرور والمار ليس له مندوحة عن المرور فيختص المصلي بالإثم دون المار . الثالثة : أن يتعرض المصلي للمرور ويكون للمار مندوحة فيأثمان ، أما المصلي فلتعرضه ، وأما المار فلمروره مع إمكان أن لا يفعل . الرابعة : أن لا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحة فلا يأثم واحد منهما كذا نقله الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى . ا هـ .

قلت : وظاهر كلام الحلية أن قواعد مذهبنا لا تنافيه حيث ذكره وأقره ، وعزا ذلك بعضهم إلى البدائع ولم أره فيها ، ولو كان فيها لم ينقله في الحلية عن الشافعية فافهم . والظاهر أن من الصورة الثانية ما لو صلى عند باب المسجد وقت إقامة الجماعة لأن للمار أن يمر على رقبته كما يأتي ، وأنه لو صلى في أرضه مستقبلا لطريق العامة فهو من الصورة الثالثة لأن المار مأمور بالوقوف وإن لم يجد طريقا آخر كما يظهر من إطلاق الأحاديث ما لم يكن مضطرا إلى المرور ، هذا إن كان المراد بالمندوحة إمكان الوقوف وإن لم يجد طريقا آخر ، أما إن أريد بها تيسر طريق آخر أو إمكان مروره من خلف المصلي أو بعيدا منه وبعدمها عدم ذلك فحينئذ يقال إن كان للمار مندوحة على هذا التفسير يكون ذلك من الصورة الثالثة أيضا وإلا فمن الصورة الثانية ويؤيد التفسير الأول قوله وأما المار فلمروره مع إمكان أن لا يفعل ، وكذا تعليلهم كراهة الصلاة في طريق العامة بأن فيه منع الناس عن المرور ، فإن مفاده أنه لا يجوز لهم المرور وإلا فلا منع ، إلا أن يراد به المنع الحسي لا الشرعي ، وهو الأظهر . وعليه فلو صلى في نفس طريق العامة لم تكن صلاته محترمة كمن صلى خلف فرجة الصف فلا يمنعون من المرور لتعديه فليتأمل . [ تنبيه ]

ذكر في حاشية المدني لا يمنع المار داخل الكعبة وخلف المقام وحاشية المطاف ، لما روى أحمد وأبو داود عن { المطلب بن أبي وداعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه [ ص: 636 ] وليس بينهما سترة } وهو محمول على الطائفين فيما يظهر لأن الطواف صلاة ، فصار كمن بين يديه صفوف من المصلين انتهى ، ومثله في البحر العميق ، وحكاه عز الدين بن جماعة عن مشكلات الآثار للطحاوي ، ونقله المنلا رحمه الله في منسكه الكبير ، ونقله سنان أفندى أيضا . في منسكه ا هـ وسيأتي إن شاء الله تعالى تأييد ذلك في باب الإحرام من كتاب الحج ( قوله لحديث البزار إلخ ) ذكر في الحلية أن الحديث في الصحيحين بلفظ " { لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه } " . قال أبو النضر أحد رواته لا أدرى قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة قال وأخرجه البزار وقال " { أربعين خريفا } " وفي بعض روايات البخاري " { ماذا عليه من الإثم } " ا هـ

والخريف : السنة ; سميت به باعتبار بعض الفصول ( قوله في ذلك ) لفظ في هنا للسببية ( قوله ولو ستارة ترتفع ) أي تزول بحركة رأسه إذا سجد ، وهذه الصورة ذكرها سعدي جلبي جوابا عن صاحب الهداية حيث اختار أن الحد موضع السجود كما مشى عليه المصنف ، فأورد عليه أنه مع الحائل كجدار أو أسطوانة لا يكره والحائل لا يمكن أن يكون في موضع السجود . فأجابسعدي جلبي بأنه يجوز أن يكون ستارة معلقة إذا ركع أو سجد يحركها رأس المصلي ويزيلها من موضع سجوده ثم تعود إذا قام أو قعد . ا هـ . وصورته أن تكون الستارة من ثوب أو نحوه معلقة في سقف مثلا ثم يصلي قريبا منها فإذا سجد تقع على ظهره ويكون سجوده خارجا عنها وإذا قام أو قعد سبلت على الأرض وسترته تأمل ( قوله ولو كان فرجة إلخ ) كان تامة وفرجة فاعلها . قال في القنية : قام في آخر الصف في المسجد بينه وبين الصفوف مواضع خالية فللداخل أن يمر بين يديه ليصل الصفوف لأنه أسقط حرمة نفسه فلا يأثم المار بين يديه ، دل عليه ما ذكر في الفردوس برواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من نظر إلى فرجة في صف فليسدها بنفسه ، فإن لم يفعل فمر مار فليتخط . على رقبته فإنه لا حرمة له } " أي فليتخط المار على رقبة من لم يسد الفرجة . ا هـ .

قلت : وليس المراد بالتخطي الوطء على رقبته لأنه قد يؤدي إلى قتله ولا يجوز ، بل المراد أن يخطو من فوق رقبته ، وإذا كان له ذلك فله أن يمر من بين يديه بالأولى فافهم . ثم هذه المسألة بمنزلة الاستثناء من قوله وإن أثم المار ، وقد علمت التفصيل المار ، ويستثنى أيضا ما قدمناه من داخل الكعبة وخلف المقام وحاشية المطاف . [ تتمة ]

في غريب الرواية : النهر الكبير ليس بسترة وكذا الحوض الكبير والبئر سترة أراد المرور بين يدي المصلي ، فإن كان معه شيء يضعه بين يديه ثم يمر ويأخذه ، ولو مر اثنان يقوم أحدهما أمامه ويمر الآخر ويفعل الآخر هكذا يمران ، وإن معه دابة فمر راكبا أثم ، وإن نزل وتستر بالدابة ومر لم يأثم ، ولو مر رجلان متحاذيين فالذي يلي المصلي هو الآثم قنية .

أقول : وإذا كان معه عصا لا تقف على الأرض بنفسها فأمسكها بيده ومر من خلفها هل يكفي ذلك ؟ لم أره




الخدمات العلمية