الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يخص حالة الاجتماع فهو أن أسباب استحقاق الشفعة إذا اجتمعت يراعى فيها الترتيب فيقدم الأقوى ، فالأقوى فيقدم الشريك على الخليط ، والخليط على الجار لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { الشريك أحق من الخليط ، والخليط أحق من غيره } ولأن المؤثر في ثبوت حق الشفعة هو دفع ضرر الدخيل ، وأذاه ، وسبب وصول الضرر والأذى هو الاتصال ، والاتصال على هذه المراتب ، فالاتصال بالشركة في عين المبيع أقوى من الاتصال بالخلط ، والاتصال بالخلط أقوى من الاتصال بالجوار ، والترجيح بقوة التأثير ترجيح صحيح ، فإن سلم الشريك وجبت للخليط وإن اجتمع خليطان يقدم الأخص على الأعم ، وإن سلم الخليط وجبت للجار لما قلنا وهذا جواب ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف أنه إذا سلم الشريك فلا شفعة لغيره .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية أبي يوسف أن الحق عند البيع كان للشريك لا لغيره ألا ترى أن غيره لا يملك المطالبة ؟ فإذا سلم سقط الحق أصلا ؟ والصحيح جواب ظاهر الرواية ; لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة سبب صالح للاستحقاق إلا أنه يرجح البعض على البعض لقوة في التأثير على ما بينا ، فإذا سلم الشريك التحقت شركته بالعدم وجعلت كأنها لم تكن فيراعى الترتيب في الباقي ، كما لو اجتمعت الخلطة والجوار ابتداء ، وبيان هذا في مسائل : دار بين رجلين في سكة غير نافذة طريقها من هذه السكة باع أحدهما نصيبه ، فالشفعة لشريكه ; لأن شركته في عين الدار ، وشركة أهل السكة في الحقوق فكان الشريك في عين الدار أولى بالشفعة فإذا سلم فالشفعة لأهل السكة كلهم يستوي فيه الملاصق ، وغير الملاصق ; لأنهم كلهم خلطاء في الطريق فإن سلموا فالشفعة للجار الملاصق .

                                                                                                                                وعلى ما روي عن أبي يوسف إذا سلم الشريك سقطت الشفعة ، أصلا ولو انشعبت من هذه السكة سكة أخرى غير نافذة ، فبيعت دار فيها فالشفعة لأهل هذه السكة خاصة ; لأن خلطة أهل هذه السكة السفلى أخص من خلطة أهل السكة العليا ، ولو بيعت دار في السكة العليا استوى في شفعتها أهل السكة العليا ، وأهل السكة السفلى ; لأن خلطتهم في السكة العليا سواء ، فيستوون في الاستحقاق وقال محمد رحمه الله أهل الدرب يستحقون الشفعة بالطريق إذا كان ملكهم أو كان فناء غير مملوك ، أما إذا كان ملكا لهم فظاهر [ ص: 9 ] لوجود الخلطة وهي الشركة في الطريق .

                                                                                                                                وأما إذا كان فناء غير مملوك ; فلأنهم أخص به من غيرهم فكان في معنى المملوك ، وإن كانت السكة نافذة فبيعت دار فيها فلا شفعة إلا للجار الملاصق ; لأن الشركة العامة إباحة معنى ، لما قلنا وإن كان مملوكا فهو في حكم غير النافذ ، والطريق النافذ الذي لا يستحق به الشفعة ما لا يملك أهله سده ; لأنه إذا كان كذلك يتعلق به حق جميع المسلمين فكانت شركته عامة فيشبه الإباحة .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج النهر إذا كان صغيرا يسقى منه أراضي معدودة أو كروم معدودة فبيع أرض منها أو كرم أن الشركاء في النهر كلهم شفعاء ، يستوي الملاصق وغير الملاصق لاستوائهم في الخلطة وهي الشركة في الشرب وإن كان النهر كبيرا فالشفعة للجار الملاصق بمنزلة الشوارع ، واختلف في الحد الفاصل بين الصغير ، والكبير قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا كان تجري فيه السفن فهو كبير ، وإن كان لا تجري فهو صغير وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال لا أستطيع أن أحد هذا بحد هو عندي على ما أرى حين يقع ذلك وروي عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه إن كان يسقى منه مراحان ، أو ثلاثة ، أو بستانان ، أو ثلاثة ففيه الشفعة وما زاد على ذلك فلا ، كذا ذكر الكرخي رضي الله عنه الاختلاف بين أصحابنا .

                                                                                                                                والقاضي لم يذكر خلافهم وإنما ذكر اختلاف المشايخ - رحمهم الله - قال بعضهم إن كان شركاء النهر بحيث يحصون فهو صغير ، وإن كانوا لا يحصون فهو كبير ، وقال بعضهم : إن كانوا مائة فما دونهم فهو صغير ، وإن كانوا أكثر من مائة فهو كبير ، وقال بعضهم : هو مفوض إلى رأي القاضي فإن رآه صغيرا قضى بالشفعة لأهله ، وإن رآه كبيرا قضى بها للجار الملاصق ، ولو نزع من هذا النهر نهر آخر فيه أرضون ، أو بساتين ، وكروم فبيع أرض ، أو بستان شربه من هذا النهر النازع فأهل هذا النهر أحق بالشفعة من أهل النهر الكبير ألا ترى أنهم مختصون بشرب النهر النازع ؟ فكانوا أولى كما في السكة المنشعبة من سكة غير نافذة ، ولو بيعت أرض على النهر الكبير كان أهله ، وأهل النهر النازع في الشفعة سواء لاستوائهم في الشرب .

                                                                                                                                قال محمد رحمه الله في قراح واحد في وسط ساقية جارية شرب هذا القراح منها من الجانبين فبيع القراح فجاء شفيعان أحدهما يلي هذه الناحية في القراح ، والآخر يلي الجانب الآخر قال هما شفيعان في القراح وليست الساقية بحائلة ; لأن الساقية من حقوق هذا القراح فلا يعتبر فاصلا كالحائط الممتد ، ولو كانت هذه الساقية بجوار القراح ويشرب منها ألف جريب من هذا القراح ، فأصحاب الساقية أحق بالشفعة من الجار ; لأنهم شركاء في الشرب ، والشريك مقدم على الجار لما مر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج ما روي عن أبي يوسف أنه قال في دار بين رجلين ولرجل فيها طريق فباع أحدهما نصيبه من الدار أن الشريك أحق بالشفعة من صاحب الطريق ; لأن الشريك في عين العقار أحق من الخليط ، وكذلك إذا كانت الدار بين رجلين ولأحدهما حائط بأرضه في الدار بينه وبين آخر فباع الذي له شركة في الحائط نصيبه من الدار والحائط ، فالشريك في الدار أحق بشفعة الدار ، والشريك في الحائط أولى بالحائط ; لأن الشريك في الحائط ليس بشريك في الدار بل هو جار لبقية الدار ، والشريك مقدم على الجار .

                                                                                                                                وكذلك دار بين رجلين ولأحدهما بئر في الدار بينه وبين آخر فباع الذي له شركة في البئر نصيبه من الدار والبئر فالشريك في الدار أحق بشفعة الدار ، والشريك في البئر أحق بالبئر لما ذكرنا أن الشريك في البئر جار لبقية الدار ، والشريك مقدم على الجار ، وكذلك سفل بين رجلين ولأحدهما علو عليه بينه وبين آخر فباع الذي له نصيب في السفل والعلو نصيبه فلشريكه في السفل الشفعة في السفل ، ولشريكه في العلو الشفعة في العلو ولا شفعة لشريكه في السفل في العلو ، ولا لشريكه في العلو في السفل ; لأن شريكه في السفل جار العلو ، وشريكه في حقوق العلو - وإن كان طريق العلو فيه ليس بشريك له في العلو - والشريك في عين البقعة أو ما هو في معنى البقعة مقدم على الجار ، والشريك في الحقوق وشريكه في العلو جار للسفل ، أو شريكه في الحقوق إذا كان طريق العلو في تلك الدار ولا شركة له في عين البقعة فكان الشريك في عين البقعة أولى .

                                                                                                                                ولو كان لرجل علو على دار وطريقه فيها وبقية الدار لآخر فباع صاحب العلو العلو بطريقه ، فالقياس أن لا شفعة لصاحب السفل في العلو وفي الاستحسان تجب .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن من شرائط وجوب الشفعة أن يكون المبيع عقارا والعلو [ ص: 10 ] منقول فلا تجب فيه الشفعة كما لا تجب في سائر المنقولات .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن العلو في معنى العقار ; لأن حق البناء على السفل حق لازم لا يحتمل البطلان فأشبه العقار الذي لا يحتمل الهلاك فكان ملحقا بالعقار فيعطى حكمه ولو كان طريق هذا العلو في دار رجل آخر فبيع العلو فصاحب الدار التي فيها الطريق أولى بشفعة العلو من صاحب الدار التي عليها العلو ; لأن صاحب الدار التي فيها الطريق شريك في الحقوق وصاحب الدار التي عليها العلو جار ، والشريك مقدم على الجار فإن سلم صاحب الطريق الشفعة فإن لم يكن للعلو جار ملاصق أخذه صاحب الدار التي عليها العلو بالجوار ; لأنه جاره ، وإن كان للعلو جار ملاصق أخذه بالشفعة مع صاحب السفل لأنهما جاران وإن لم يكن جار العلو ملاصقا وبين العلو وبين مسكنه طائفة من الدار فلا شفعة له ; لأنه ليس بجار ولو باع صاحب السفل السفل كان صاحب العلو شفيعا ; لأنه جاره وليس شريكه وهو كدارين متجاورتين لأحدهما خشب على حائط الآخر أن صاحب الخشب لا يستحق إلا بالجوار ولا يستحق بالخشب شيئا ولو بيعت الدار التي فيها طريق العلو فصاحب العلو أولى بشفعة الدار من الجار ; لأنه شريك في الحقوق فكان مقدما على الجار .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه قال في بيت عليه غرفتان إحداهما فوق الأخرى ولكل غرفة طريق في دار أخرى وليس بينهما شركة في الطريق فباع صاحب البيت الأوسط بيته وسلم صاحب الطريق فالشفعة لصاحب العلو ولصاحب السفل جميعا لاستوائهما في الجوار فإن باع صاحب العلو كانت الشفعة للأوسط دون الأسفل ; لأن الجوار له لا للأسفل وعلى هذا يخرج ما روي عن أبي يوسف أنه قال في دار فيها مسيل ماء لرجل آخر فبيعت الدار كانت له الشفعة بالجوار لا بالشركة وليس المسيل كالشرب ; لأن صاحب المسيل مختص بمسيل الماء لا شركة للآخر فيه فصار كحائط لصاحب إحدى الدارين في الأخرى ولو أن حائطا بين داري رجلين والحائط بينهما فصاحب الشرك في الحائط أولى بالحائط من الجار وبقية الدار يأخذها بالجوار مع الجار بينهما هكذا روي عن أبي يوسف وزفر رحمهما الله وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أن الشريك في الحائط أولى بجميع الدار .

                                                                                                                                ( وجه ) هذه الرواية أن الشريك في الحائط شريك في بعض المبيع فكان أولى من الجار الذي لا شركة له كالشريك في الشرب والطريق .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية الأولى أن الشريك في الحائط شريك لكن في بقعة معينة وهي ما تحت الحائط لا في بقية الدار بل هو جار في بقية الدار فكان أولى بما هو شريك فيه وبقية الدار بينه وبين الجار الآخر لاستوائهما في الجوار وكذلك الدار لرجل فيها بيت بينه وبين غيره فباع الرجل الدار وطلب الجار الشفعة وطلبها الشريك في البيت فصاحب الشركة في البيت أولى بالبيت وبقية الدار بينهما نصفان قال الكرخي عليه الرحمة وأصح الروايات عن أبي يوسف أن الشريك في الحائط أولى ببقية الدار من الجار لما ذكرنا من تحقيق الشركة في نفس المبيع والشريك مقدم على الجار قال وعن محمد مسألة تدل على أن الشريك في الحائط أولى فإنه قال في حائط بين دارين لكل واحد منهما عليه خشبة ولا يعلم أن الحائط بينهما إلا بالخشبة فبيعت إحدى الدارين قال فإن أقام الآخر بينة أن الحائط بينهما فهو أحق من الجار ; لأنه شريك وإن لم يقم بينة لم أجعله شريكا وقوله أحق من الجار أي : أحق بالجميع لا بالحائط خاصة وهذا هو مقتضى ظاهر هذا الإطلاق .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف فيمن اشترى حائطا بأرضه ثم اشترى ما بقي من الدار ثم طلب جار الحائط الشفعة فله الشفعة في الحائط ولا شفعة له فيما بقي من الدار ; لأنه لم يكن جارا لبقية الدار وقت البيع إذ الحائط حائل بين ملكه وبقية الدار فلا تجب الشفعة له وروي عن أبي يوسف في دار بين رجلين لرجل فيها طريق فباع أحدهما نصيبه من الدار فشريكه في الدار أحق بالشفعة في الدار ولصاحب الطريق الشفعة في الطريق ; لأن الطريق إذا كان معينا كان بمنزلة الحائط على ما ذكرنا وهذا على الرواية التي تقول الشريك في الحائط جار في بقية الدار على ما ذكرنا فيما تقدم والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية