الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) طريق إثبات العيب ، فلا يمكن الوصول إلى معرفة أقسام العيوب ; لأن طريق إثبات العيب يختلف باختلاف العيب ، فنقول وبالله التوفيق العيب لا يخلو ( إما ) أن يكون ظاهرا شاهدا يقف عليه كل أحد كالإصبع الزائدة والناقصة والسن الشاغية والساقطة وبياض العين والعور والقروح والشجاج ونحوها ( وإما ) أن يكون باطنا خفيا لا يقف عليه إلا الخواص من الناس ، وهم الأطباء ، والبياطرة .

                                                                                                                                ( وإما ) أن يكون مما لا يقف عليه إلا النساء بأن كان على فرج الجارية أو مواضع العورة منها ، وإما أن يكون مما لا يقف عليه النساء بأن كان داخل الفرج ، وإما أن يكون مما لا يقف عليه إلا الجارية المشتراة كارتفاع الحيض والاستحاضة ، وإما أن يكون مما لا يوقف عليه إلا بالتجربة والامتحان عند الخصومة كالإباق والسرقة والبول على الفراش والجنون والمشتري لا يخلو إما أن يريد إثبات كون العيب في يده للحال ، وإما أن يريد إثبات كونه في يد البائع عند البيع ، والقبض فإن أراد إثبات كونه للحال ، فإن كان يوقف عليه بالحس والعيان ، فإنه يثبت بنظر القاضي أو أمينه ; لأن العيان لا يحتاج إلى البيان ، وإن كان لا يقف عليه إلا الأطباء والبياطرة ، فيثبت لقوله عز وجل { ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ، وهم في هذا الباب من أهل الذكر فيسألون ، وهل يشترط فيه العدد ؟ .

                                                                                                                                ذكر الكرخي في مختصره أنه يشترط ، فلا يثبت إلا بقول اثنين منهم من أهل [ ص: 279 ] الشهادة ، وهكذا ذكر القاضي الإسبيجابي في شرحه مختصر الطحاوي ، وذكر شيخي الإمام الزاهد علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي رحمه الله في بعض مصنفاته أنه ليس بشرط ، ويثبت بقول مسلم عدل منهم ، وكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو المعين في الجامع الكبير من تصانيفه ( وجه ) هذا القول أن هذه الشهادة لا يتصل بها القضاء ، وإنما تصح بها الخصومة ، فقط ، فلا يشترط فيها العدد ، وهذا ; لأن شرط العدد في الشهادة ثبت تعبدا غير معقول المعنى ; لأن رجحان جانب الصدق على جانب الكذب في خبر المسلم لا يقف على عدد بل يثبت بنفس العدالة إلا أن الشرع ، ورد به تعبدا ، فيراعى فيه مورد التعبد ، وهو شهادة يتصل بها القضاء ، وهذه شهادة لا يتصل بها القضاء ، فبقيت على أصل القياس .

                                                                                                                                وحجة القول الأول النصوص المقتضية لاعتبار العدد في عموم الشهادة ، والمعقول الذي ذكرناه في كتاب الشهادات ; ولأن هذه الشهادة ، وإن كان لا يتصل بها القضاء لكنها من ضرورات القضاء لا وجود للقضاء بدونها ألا ترى أنه ما لم يثبت العيب عند البائع والمشتري ، فالقاضي لا يقضي بالرد ، فكان من ضرورات القضاء ، فيشترط فيها العدد ، كما يشترط في الشهادة على إثبات العيب عند البائع ، وإن كان مما لا يطلع عليه إلا النساء ، فالقاضي يريهن ذلك لقوله عز وجل { ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ، والنساء فيما لا يطلع عليه الرجال أهل الذكر ، ولا يشترط العدد منهن بل يكتفى بقول امرأة واحدة عدل ، والثنتان أحوط ; لأن قولهما فيما لا يطلع عليه الرجال حجة في الشرع كشهادة القابلة في النسب .

                                                                                                                                لكن لا بد من العدالة ; لأن هذا يرجح جانب الصدق على جانب الكذب في الخبر ، ولا يثبت بقول المشتري ، وإن كان يطلع عليه ; لأن النظر إلى موضع العيب مباح له ; لأنه متهم في هذا الباب ، ولا تهمة فيهن ، ورخصة النظر ثابتة لهن حالة الضرورة على ما ذكرنا في كتاب الاستحسان ، فيلحق هذا بما لا يطلع عليه إلا النساء لما قلنا ، وإن كان لا يطلع عليه إلا الجارية المشتراة ، فلا يثبت بقولها ; لكونها متهمة ، وإن كان في داخل فرجها ، فلا طريق للوقوف عليه أصلا ، فكان الطريق في هذين النوعين هو استحلاف البائع بالله عز وجل ليس به للحال هذا العيب .

                                                                                                                                ( وأما ) الإباق والسرقة والبول في الفراش ، والجنون ، فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين ; لأن هذا مما لا يوقف عليه إلا بالخبر ، ولا ضرورة فيه ، فلا بد من اعتبار العدد فيه ، كما في سائر الشهادات ، فإن لم يقم للمشتري حجة على إثبات العيب للحال في هذه العيوب الأربعة هل يستحلف البائع ؟ لم يذكر في الأصل ، وذكر في الجامع أنه يستحلف في قول أبي يوسف ، ومحمد ، وسكت عن قول أبي حنيفة عن المشايخ من قال : يستحلف بلا خلاف بينهم ، والتنصيص على قولهما لا يدل على أن أبا حنيفة مخالفهما ، ومنهم من قال : المسألة على الاختلاف ذكرت في النوادر ، وذكر الطحاوي أيضا أن عند أبي حنيفة لا يستحلف ، وعندهما يستحلف .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن المشتري يدعي حق الرد ، ولا يمكنه الرد إلا بإثبات العيب عند نفسه ، وطريق الإثبات البينة أو نكول البائع ، فإذا لم تقم له بينة يستحلف لينكل البائع ، فيثبت العيب عند نفسه ، ولهذا يستحلف عند عدم البينة على إثبات العيب عند البائع كذا هذا ، ولأبي حنيفة أن الاستحلاف يكون عقيب الدعوى على البائع ، ولا دعوى له على البائع إلا بعد ثبوت العيب عند نفسه ، ولم يثبت ، فلم تثبت دعواه على البائع ، فلا يستحلف ، وقولهما له طريق الإثبات ، وهو النكول قلنا النكول بعد الاستحلاف وانعدام الدعوى يمنع الاستحلاف ; لأن استحلاف البائع في هذه العيوب على العلم لا على البتات وبالله ما يعلم أن هذا العبد أبق عند المشتري ، ولا سرق ولا بال على الفراش ولا جن ، ولا يحلف على البتات ; لأنه حلف علي غير فعله .

                                                                                                                                ومن حلف على غير فعله يحلف على العلم ; لأنه لا علم له بما ليس بفعله ، ومن حلف على فعل نفسه يحلف على البتات أصله خبر المثنوي ، فإن حلف لم يثبت العيب عند المشتري ، وإن نكل يثبت عنده ، فيحتاج إلى الإثبات عنده .

                                                                                                                                وإذا أراد إثبات العيب عند البائع ، فينظر إن كان العيب مما لا يحتمل الحدوث أصلا كالإصبع الزائدة ، ونحوها أو لا يحتمل حدوث مثله في مثل تلك المدة كالسن الشاغية ، ونحوها ثبت كونه عند البائع بثبوت كونه عند المشتري ; لأنه إذا لم يحتمل الحدوث أولا يحتمل حدوث مثله في مثل تلك المدة ، فقد تيقنا بكونه عند البائع ، وإن كان مما يحتمل حدوث مثله في مثل تلك المدة لا يكتفى بثبوت كونه عند [ ص: 280 ] المشتري بل يحتاج المشتري إلى إثبات كونه عند البائع ; لأنه إذا احتمل حدوث مثله في مثل تلك المدة احتمل أنه لم يكن عند البائع ، وحدث عند المشتري ، فلا يثبت حق الرد بالاحتمال ، فلا بد من إثباته عند البائع بالبينة ، وهي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين طبيبتين كانا أو غير طبيبتين .

                                                                                                                                وإنما شرط العدد في هذه الشهادة ; لأنها شهادة يقضى بها على الخصم ، فكان العدد فيها شرطا كسائر الشهادات التي يقضى بها على الخصوم .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه فيما لا يطلع عليه إلا النساء يرد بثبوته عند المشتري ، ولا يحتاج إلى الإثبات عند البائع ، والمشهور من مذهب أبي يوسف ، ومحمد رحمهما الله أنه لا يكتفى بالثبوت عند المشتري بل لا بد من إثباته عند البائع ، وهو الصحيح ; لأن قول النساء في هذا الباب حجة ضرورة ، والضرورة في القبول في حق ثبوته عند المشتري لتوجه الخصومة وليس من ضرورة ثبوته عند البائع لاحتمال الحدوث ، فيقبل قولهما في حق توجه الخصومة ; لأن حق الرد على البائع ، وإذا كان الثبوت عند البائع فيما يحدث مثله شرطا لثبوت حق الرد .

                                                                                                                                فيقول القاضي : هل كان هذا العيب عندك ؟ فإن قال : نعم ، رد عليه إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء ، وإن قال : لا كان القول قوله إلا أن يقيم المشتري البينة ; لأن المشتري يدعي عليه حق الرد وهو ينكر ، فإن أقام المشتري البينة على ذلك رده على البائع ، إلا أن يدعي البائع الدفع أو الإبراء ويقيم البينة على ذلك فتندفع دعوى المشتري ، وإن لم يكن له بينة فطلب يمين المشتري حلفه القاضي بالله سبحانه وتعالى ما رضي بهذا العيب وإلا أبرأه عنه ولا عرضه على البيع منذ رآه ، وإن لم يدع الدفع بالرضا والإبراء فإن القاضي يقضي بفسخ العقد ولا يستحلف المشتري على الرضا والإبراء والعرض على البيع عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف : لا يفسخ ما لم يستحلفه بالله تعالى ما رضي بهذا العيب ولا أبرأه عنه ولا عرضه على البيع بعد ما علم به من العيب .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي يوسف أن القاضي لو قضى بالفسخ قبل الاستحلاف فمن الجائز أن يدعي البائع على المشتري بالدفع بدعوى الرضا والإبراء بعد القضاء بالفسخ ويقيم البينة فيفسخ قضاؤه ، فكان الاستحلاف قبل الفسخ فيه صيانة للقضاء عن النقض وأنه واجب ( وجه ) قولهما أن البائع إذا لم يطلب يمين المشتري فتحليف القاضي من غير طلب الخصم إنشاء الخصومة ، والقاضي نصب لقطع الخصومة لا لإنشائها ، وقول أبي يوسف أن في هذا صيانة قضاء القاضي عن الفسخ فنقول : الصيانة حاصلة بدونه ; لأن الظاهر أن البائع لم يعلم بوجود الرضا من المشتري ، إذ لو علم لادعى الدفع بدعوى ، ولما سكت عن دعوى الدفع عند قيام البينة دل أنه لم يظهر له الرضا من المشتري فلا يدعي الدفع بعد ذلك .

                                                                                                                                وإن لم يقم المشتري بينة على إثبات العيب عند البائع وطلب المشتري يمينه ففيما سوى العيوب الأربعة يستحلف على البتات بالله تعالى لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب ، وإنما يجمع بين البيع والتسليم في الاستحلاف ; لأن الاقتصار على البيع يوجب بطلان حق المشتري في بعض الأحوال لجواز أن يحدث العيب بعد البيع قبل التسليم فيبطل حقه فكان الاحتياط هو الجمع بينهما ، ومنهم من قال : لا احتياط في هذا لأنه لو استحلف على هذا الوجه فمن الجائز حدوث العيب بعد البيع قبل التسليم فيكون البائع صادقا في يمينه ; لأن شرط حنثه وجود العيب عند البيع والتسليم جميعا فلا يحنث بوجوده في أحدهما فيبطل حق المشتري فكان الاحتياط في هذا الاستحلاف على حاصل الدعوى بالله عز وجل ما له حق الرد بهذا العيب الذي ذكره ، ومنهم من قال : يستحلف بالله تعالى لقد سلمته وما به هذا العيب الذي يدعي وهو صحيح ; لأنه يدخل فيه الموجود عند البيع والحادث قبل التسليم .

                                                                                                                                وإنما لم يستحلف على البتات ; لأنه استحلف على فعل نفسه " وهو البيع والتسليم " بصفة السلامة ثم إذا حلف فإن حلف برئ ولا يرد عليه وإن نكل يرد عليه ويفسخ العقد إلا إذا ادعى البائع على المشتري الرضا بالعيب أو الإبراء عنه أو العرض على البيع بعد العلم به ، ويقيم البينة فيبرأ ولا يرد عليه ، وإن لم يكن له بينة وطلب تحليف المشتري يحلف عليه ، وإن لم يطلب يفسخ العقد ، ولا يحلفه عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف على ما تقدم .

                                                                                                                                ( وأما ) في العيوب الأربعة : ففي الثلاثة منها وهي الإباق والسرقة والبول في الفراش يستحلف بالله تعالى ما أبق عندك منذ بلغ مبلغ الرجال ، وفي الجنون بالله عز وجل ما جن عندك قط ، وإنما اختلفت هذه العيوب في كيفية [ ص: 281 ] الاستحلاف لما ذكرنا فيما تقدم أن اتحاد الحالة في العيوب الثلاثة شرط ثبوت حق الرد وليس بشرط في الجنون بل هو عيب لازم أبدا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية