الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) الزيادة المنفصلة المتولدة من المبيع بعد القبض ، وجملة الكلام في الزيادة أنها لا تخلو إما أن حدثت قبل القبض ، وإما أن حدثت بعده ، وكل واحدة من الزيادتين لا تخلو من أن تكون متصلة أو منفصلة ، والمتصلة لا تخلو من أن تكون متولدة من الأصل كالحسن والجمال والكبر والسمن والسمع وانجلاء بياض إحدى العينين ونحو ذلك أو غير متولدة منه كالصبغ في الثوب والسمن أو العسل الملتوت بالسويق والبناء في الأرض ونحوها ، وكذلك المنفصلة لا تخلو من أن تكون متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن ونحوها ، أو غير متولدة من الأصل كالكسب والصدقة والغلة ، والبيع لا يخلو إما أن يكون صحيحا أو فاسدا .

                                                                                                                                ( أما ) الزيادة في البيع الفاسد فحكمها نذكره في بيان حكم البيع الفاسد إن شاء الله تعالى ( وأما ) في البيع الصحيح : فإن حدثت الزيادة قبل القبض فإن كانت متصلة متولدة من الأصل [ ص: 285 ] فإنها لا تمنع الرد بالعيب لأن هذه الزيادة تابعة للأصل حقيقة لقيامها بالأصل فكانت مبيعة تبعا ، والأصل أن ما كان تابعا في العقد يكون تابعا في الفسخ ; لأن الفسخ رفع العقد فينفسخ العقد في الأصل بالفسخ فيه مقصودا ، وينفسخ في الزيادة تبعا للانفساخ في الأصل وإن كانت متصلة غير متولدة من الأصل فإنها تمنع الرد بالعيب ; لأن هذه الزيادة ليست بتابعة بل هي أصل بنفسها ، ألا ترى أنه لا يثبت حكم البيع فيها أصلا ورأسا ؟ فلو رد المبيع لكان لا يخلو إما أن يرده وحده بدون الزيادة ، وإما أن يرده مع الزيادة لا سبيل إلى الأول ; لأنه متعذر لتعذر الفصل ولا سبيل إلى الثاني ; لأن الزيادة ليست بتابعة في العقد فلا تكون تابعة في الفسخ ولأن المشتري صار قابضا للمبيع بإحداث هذه الزيادة فصار كأنها حدثت بعد القبض ، وحدوثها بعد القبض يمنع الرد بالعيب ، والله - عز وجل - أعلم .

                                                                                                                                وإن كانت منفصلة متولدة من الأصل لا تمنع الرد فإن شاء المشتري ردهما جميعا ، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن بخلاف ما بعد القبض عندنا أنها تمنع الرد بالعيب ، وسنذكر الفرق إن شاء الله تعالى ولو لم يجد بالأصل عيبا ولكن وجد بالزيادة عيبا ليس له أن يردها ; لأن هذه الزيادة قبل القبض مبيعة تبعا ، والمبيع تبعا لا يحتمل فسخ العقد فيه مقصودا إلا إذا كان حدوث هذه الزيادة قبل القبض مما يوجب نقصانا في المبيع كولد الجارية فله خيار الرد لكن لا للزيادة بل للنقصان .

                                                                                                                                ولو قبض الأصل والزيادة جميعا ثم وجد بالأصل عيبا له أن يرده خاصة بحصته من الثمن بعدما قسم الثمن على قدر الأصل وقت البيع وعلى قيمة الزيادة وقت القبض ; لأن الزيادة إنما تأخذ قسطا من الثمن بالقبض ، كذلك يعتبر قبضها وقت القبض ولو لم يجد بالأصل عيبا ولكنه وجد بالزيادة عيبا فله أن يردها خاصة بحصتها من الثمن ; لأنه صار لها حصة من الثمن بالقبض فيردها بحصتها من الثمن فإن كانت الزيادة منفصلة من الأصل فإنها لا تمنع الرد بالعيب ; لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة لانعدام ثبوت حكم البيع فيها ، وإنما هي مملوكة بسبب على حدة أو بملك الأصل فبالرد ينفسخ العقد في الأصل وتبقى الزيادة مملوكة بوجود سبب الملك فيه مقصودا أو بملك الأصل لا بالبيع فكانت ربحا لا ربا لاختصاص الربا بالبيع ; لأنه فضل مال قصد استحقاقه بالبيع في عرف الشرع ، ولم يوجد ثم إذا رد الأصل فالزيادة تكون للمشتري بغير ثمن عند أبي حنيفة لكنها لا تطيب له ; لأنها حدثت على ملكه إلا أنها ربح ما لم يضمن فلا تطيب .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف ومحمد الزيادة تكون للبائع لكنها لا تطيب له وهذا إذا اختار المشتري الرد بالعيب فإن رضي بالعيب واختار البيع فالزيادة لا تطيب له بلا خلاف ; لأنها ربح ما لم يضمن ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ولأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وأنه تفسير الربا ولو قبض المشتري المبيع مع هذه الزيادة ثم وجد بالمبيع عيبا : فإن كانت الزيادة هالكة له أن يرد المبيع خاصة بجميع الثمن بلا خلاف ، وإن كانت قائمة فكذا عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يرد معه الزيادة .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن هذه زيادة حدثت قبل القبض فيردها مع الأصل ولأبي حنيفة أن هذه الزيادة لا تتبع الأصل في حكم العقد فلا تتبعه في حكم الفسخ ولو وجد بالزيادة عيبا ليس له أن يردها ; لأنه لا حصة لهذه الزيادة من الثمن فلا تحتمل الرد بالعيب ; لأنها لو ردت لردت بغير شيء هذا إذا حدثت الزيادة قبل القبض فأما إذا حدثت بعد القبض فإن كانت متصلة متولدة من الأصل فإنها لا تمنع الرد إن رضي المشتري بردها مع الأصل بلا خلاف ; لأنها تابعة حقيقة وقت الفسخ ، فبالرد ينفسخ العقد في الأصل مقصودا وينفسخ في الزيادة تبعا .

                                                                                                                                وإن أبى أن يرده وأراد أن يأخذ نقصان العيب من البائع وأبى البائع إلا الرد مع العيب ودفع جميع الثمن اختلف فيه : قال أبو حنيفة رحمه الله وأبو يوسف : للمشتري أن يأخذ نقصان العيب من البائع وليس للبائع أن يأبى ذلك ويطلب الرد ويقول : لا أعطيك نقصان العيب ولكن رد علي المبيع معيبا لأدفع إليك جميع الثمن وقال محمد رحمه الله ليس للمشتري أن يرجع بالنقصان على البائع إذا أبى ذلك ، وللبائع أن يقول له : رد علي المبيع حتى أرد إليك الثمن كله ولقب المسألة أن الزيادة المتصلة المتولدة من الأصل بعد القبض هل تمنع الرد بالعيب إذا لم يرض صاحب الزيادة - وهو المشتري - برد الزيادة ويريد الرجوع بنقصان العيب ؟ عندهما يمنع ، وعنده لا يمنع .

                                                                                                                                وأصل المسألة في النكاح إذا ازداد المهر زيادة متصلة متولدة من الأصل بعد القبض ثم ورد الطلاق قبل [ ص: 286 ] الدخول أنها هل تمنع التنصيف ؟ عندهما تمنع ، وعليها نصف القيمة يوم قبضت ، وعنده لا تمنع ونذكر المسألة في النكاح وإن كانت متصلة غير متولدة من الأصل تمنع الرد بالإجماع ويرجع بنقصان العيب لما ذكرنا أنه لو رد الأصل فإما أن يرده وحده وإما أن يرده مع الزيادة ، والرد وحده لا يمكن والزيادة ليست بتابعة في العقد فلا يمكن أن يجعلها تابعة في الفسخ إلا إذا تراضيا على الرد ; لأنه صار بمنزلة بيع جديد وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل فإنها تمنع الرد بالعيب عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله لا تمنع ، ويرد الأصل بدون الزيادة وكذلك هذه الزيادة تمنع الفسخ عندنا من الإقالة ، والرد بخيار الشرط وخيار الرؤية ، والكلام فيه مبني على أصل ذكرناه فيما تقدم وهو أن الزيادة عندنا مبيعة تبعا لثبوت حكم الأصل فيه تبعا ، وبالرد بدون الزيادة ينفسخ العقد في الأصل مقصودا وتبقى الزيادة في يد المشتري مبيعا مقصودا بلا ثمن ليستحق بالبيع ، وهذا تفسير الربا في عرف الشرع .

                                                                                                                                بخلاف الزيادة قبل القبض ; لأنها لا ترد بدون الأصل أيضا احترازا عن الربا بل ترد مع الأصل ، وردها مع الأصل لا يتضمن الربا ثم إنما لا يرد الأصل مع الزيادة ههنا ورد هناك ، أما امتناع رد الأصل بدون الزيادة فلما قلنا إنه يؤدي إلى الربا ( وأما ) رده مع الزيادة فلأنه يؤدي إلى أن يكون الولد التابع بعد الرد ربح ما لم يضمن ; لأنه ينفسخ العقد في الزيادة ، ويعود إلى البائع ولم يصل إلى المشتري بمقابلة شيء من الثمن في الفسخ ; لأنه لا حصة له من الثمن فكان الولد للبائع ربح ما لم يضمن ; لأنه حصل في ضمان المشتري فأما الولد قبل القبض فقد حصل في ضمان البائع فلو انفسخ العقد فيه لا يكون ربح ما لم يضمن بل ربح ما ضمن وإن كانت منفصلة غير متولدة من الأصل لا يمتنع الرد بالعيب ويرد الأصل على البائع والزيادة للمشتري طيبة له ; لما مر أن هذه الزيادة ليست بمبيعة أصلا لانعدام ثبوت حكم البيع فيها بل ملكت بسبب على حدة فأمكن إثبات حكم الفسخ فيه بدون الزيادة فيرد الأصل وينفسخ العقد فيه وتبقى الزيادة مملوكة للمشتري بوجود سبب الملك فيها شرعا ، فتطيب له .

                                                                                                                                هذا إذا كانت الزيادة قائمة في يد المشتري فأما إذا كانت هالكة فهلاكها لا يخلو من أن يكون بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل أجنبي : فإن كان بآفة سماوية له أن يرد الأصل بالعيب وتجعل الزيادة كأنها لم تكن ، وإن كان بفعل المشتري فالبائع بالخيار إن شاء قبل ورد جميع الثمن وإن شاء لم يقبل ويرد نقصان العيب ، سواء كان حدوث ذلك أوجب نقصانا في الأصل أو لم يوجب نقصانا فيه ; لأن إتلاف الزيادة بمنزلة إتلاف جزء متصل بالأصل لكونها متولدة من الأصل ، وذا يوجب الخيار للبائع وإن كان بفعل أجنبي ليس له أن يرد ; لأنه يجب ضمان الزيادة على الأجنبي فيقوم الضمان مقام العين فكأن عينه قائمة فيمتنع الرد ويرجع بنقصان العيب ، والله - عز وجل - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية