الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            انتشار الإسلام في كوسوفا

            سامر بابروش أحمدي

            المبحث الثالث

            دور الداعية «صاري صلتوق» في انتشار الإسلام في كوسوفا

            شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يرسل إلى الأرض عددا من الرسل في كل فترة من فترات التاريخ تتأزم فيها حياة البشر وتقف عقولهم عاجزة عن الوصول إلى حلول للمشاكل الكبيرة، التي تعترض حياتهم وتعكر صفوها، وأن تكون مهمة الرسالات السابقة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، بالإضافة إلى تنظيم حياة الأمم التي أرسل إليها هـؤلاء الرسل، تهيئة البشرية لتقبل الرسالة الخاتمة، رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، التي خصها الله سبحانه وتعالى بصفات جعلتها قادرة على تنظيم الحياة بمختلف أنشطتها، والتصدي لكل المشكلات التي تعترض الحياة البشرية، وإيجاد الحلول المناسبة لها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وقد أولت الرسالة الخاتمة بعض الجوانب اهتماما خاصا تقديرا منها للدور الكبير الذي تضطلع به هـذه الجوانب في خلق المجتمع الإسلامي المثالي واستمراره، ومن هـذه الجوانب الدعوة إلى الإسلام، وهي واجبة على كل مسلم، وفقا لقدراته واستطاعته، وقد وجدت الدعوة اهتماما خاصا من قبل الحكام والخاصة والعامة منذ ظهور الإسلام ودولته وإلى يومنا هـذا. [ ص: 99 ] وبالنسبة إلى المنطقة التي نحن بصدد دراستها، فمن الطبيعي أن تكون قد شهدت ظهور بعض الدعاة المسلمين قبل ظهور العثمانيين فيها وبسطهم سيطرتهم على أراضيها، وأن يكون معظم هـؤلاء الدعاة من الأتراك بحكم الظهور المبكر للإسلام في تركيا وقرب هـذه الأخيرة من بلاد البلقان .

            وتتميز المرحلة السابقة للعثمانيين في بلاد البلقان باعتماد الدعوة الإسلامية على الجهد الفردي ووصـول عـدد لا بأس به من الدعاة المسـلمين إلى الأراضي البلقانية، كالبجناكيين، وكان من أبرز الدعاة الذين حـلوا في بلاد البلقـان في هـذه الفترة الداعية « صاري صلتوق Sari SaltuK» وكان من أتباع الطريقة البكتاشية الصوفية السنية، التي تعتبر واحدة من الطرق الصوفية المنتشرة في أرض الإسلام وقتذاك، مثل الخلوتية والرفاعية... إلخ [1] .

            وقد ظهر البكتاشيون في الجزء الآسيوي للدولة العثمانية، أي في الأناضول ، والمؤسس لهذه الطريقة الصوفية هـو « الحاج بكتاش » المولود في إيران عام647هـ / 1249م، ثم استقر في تركيا عام 683هـ / 1284م؛ [ ص: 100 ] وقام مؤسس البكتاشية الحاج بكتاش بزيارة إلى الهند والتيبت والصين ، وهنالك وقف على الاعتقادات البوذية والهندية [2] .

            ويعتبر الداعية « صاري صلتوق Sari SaltuK» أحد الأقطاب البارزين في البكتاشية، وأحد مبعوثي الحاج بكتاش إلى بلاد البلقان عامة بما فيها « كوسوفا »، وقد عرف «صاري صلتوق» بمهاراته الخاصة، وبصبره النادر، وتنوع أساليبه في نشر الاعتقادات البكتاشية وسط البلقانيين، وقد استعمل البكتاشيون العديد من الوسائل لنشر الإسلام وفقا لوجهة النظر البكتاشية، ومن بين هـذه الوسائل تشييد التكايا [3] لإيواء وإطعام المحتاجين [4] .

            ومن التكايا التي شيدوها: التكية الموجودة في مدينة « بوغراديس Pogradec» الألبانية، وتكية في مدينة « ميتروويتسا Mitrovica» الكوسوفية، وتكية في مدينة « كاشانيك KaçaniK» الكوسوفية، الشيء الذي يدل على امتداد واسع لهذه الطريقة الإسلامية في الأراضي الألبانية عامة والكوسوفية خاصة [5] .

            وهنالك رواية أخرى تقول: إن «صاري صلتوق» هـو أحد تلاميذ الشيخ « أحمد يسوي » الصوفي التركي المشهور، وهذه الرواية تختلف مع [ ص: 101 ] الرواية القائلة: بأنه من أقطاب الطريقة البكتاشية ولكنها تتفق معها في أنه من أصل تركي [6] .

            فالداعية « صاري صلتوق » دخل الأراضي التي كانت تابعة للدولة البيزنطية ومن بينها بلاد الألبان قبل مجيء العثمانيين إلى هـذه الأماكن مصحوبا بمجموعة من أتباعه، وهو داعية إسلامي من أصل تركي [7] .

            ويؤكد المؤرخ التركي « كمال قربات » هـذه الحقائق قائلا: إن الدعاة المسلمين الأوائل في البلقان من أصل تركي، ووصلت المجموعة الأولى منهم في القرن الثالث عشر الميلادي، رغم هـذا إلا أن هـناك مجموعات صغيرة، أقل نفرا منها، جاءت إلى الأراضي البلقانية في القرن العاشر والحادي عشر [8] .

            وفي الفترة ما بين عامي 648–659هـ / 1250–1260م، استوطنت مجموعات من الأتراك وتركمان آسيا الصغرى في مدينة « دوبروج » ( مدينة كانت تابعة لبلغاريا وقتذاك وهي تابعة لرومانيا الحالية) ، وبدأت تمارس الدعوة الإسلامية فيها وفي المناطق المجاورة لها.. وهنالك رواية أخرى تقول: بأن « صاري صلتوق » كان من بين أفراد هـذه المجموعة، وأن استيطانها في هـذه المدينة تم في عام 662هـ / 1263م [9] . [ ص: 102 ] وذكر الشاعر الألباني المشهور « إسماعيل قدارة – Ismail Kadare» في أحد مؤلفـاته مجيء مجموعات مختلفة من الدعاة إلى بلاد البلقان، وذكر من ضمنهم الداعية « صـاري صلتوق » ووصفـه بأنه كان درويشا تركيا بدويا [10] .

            أما المؤرخ الألباني « أكرم بك ولورا EKrem bej Vlora» فقد وصف الدعاة المسلمين، الذين جاءوا إلى بلاد البلقان في الفترة التي سبقت مجئ العثمانيين، ومنهم الداعية «صاري صلتوق»، بأنهم متجولون ولم يمكثوا في مكان واحد، وإليهم يرجع الفضل في تهيئة بلاد البلقان لاستقبال الفاتحين العثمانيين [11] .

            أما عن الاسم الحقيقي للداعية «صاري صلتوق»، فالموسوعة التركية تسميه «مهمت» أي «محمد» وتقول: إنه عاش وجاهد في القرن الثالث عشر الميلادي في بلاد البلقان [12] .

            وحسب رأي الدكتور « حسن قلشي » فإن الاسم الحقيقي للداعية «صـاري صلتوق» هـو «إسمـاعيل»، وأنه أحـد تلاميـذ « الحاج بكتاش ولي » [13] . [ ص: 103 ] أما الموسوعة الإسلامية المكتوبة من قبل الأوروبيين فتقول: إنه تركي وولي من الأولياء عند البكتاشية، وأصله من بخارى، واسمه الصحيح هـو مهمد «محمد» البخاري [14] .

            وبعد وصول الداعية « صاري صلتوق » إلى الأراضي الرومية من بلاد البلقان وبمرافقة معاونيه، لاحظ أن المسلمين فيها يعيشون أوضاعا اقتصادية صعبة، ويعانون من الاضطهاد الديني، فقام بتنظيم أتباعه ومن انضم إليه من المسلمين وكون منهم جيشا منظما ثم شن حربا على الروم، وتمكن من فتح مدينة « إسكوبيا ShKup» التابعة لمقدونيا الحالية، ومدينة « دوبروج »، وعاقب « صاري صلتوق » نصارى تلك المناطق على جرائمهم التي ارتكبوها ضد المسلمين، ثم حول نشاطه إلى أماكن أخرى برغبة التوغل داخل الأراضي الأوروبية [15] .

            وإلى جانب النشاط العسكري، فقد اهتم «صاري صلتوق» بتقديم النصح والإرشاد لعامة الناس وخاصتهم، وقد حفظ له التاريخ نصيحته التي قدمها إلى السلطان العثماني الغازي «عثمان الأول» وجاء فيها: كن عادلا وصريحا، ولا تجعل الفقير يلعنك، ولا تضغط على مؤيديك، وراقب قضاتك وولاتك بمهارة، واعمل بالقسط حتى تتمكن أن تسيطر بحكمك، وتحافظ على طاعة مؤيديك [16] . [ ص: 104 ] لقد شهدت الأراضي الألبانية نشاطا دعويا مكثفا قام به « صاري صلتوق » ومجموعته التركية، وبفضل هـذا النشاط أصبح اسم «صاري صلتوق» معروفا في البلاد الألبانية، وحمـلت العديد من المعالم والأماكن اسمه، وعلى سبيل المثال ففي مدينة «كرويا – Kruja» في ألبانيا الحالية يوجد جبل يبعد منها 600 متر، يسميه الناس هـنالك بـ «جبل صاري صلتوق»، وفي أعلى هـذا الجبل يوجد ضريح يسميه الناس بـ «ضريح صاري صلتوق»

            [17] .

            وهذا الضريح الأخير ربما يعود تاريخه إلى عام 1104–1105ه/1692–1693م [18] .

            وكذلك في قرية « بريلب Prilep» التابعة لمدينة « جاكووا GjaKova» التابعة لكوسوفا الحالية بالقرب من النهر المسمى بـ «ريكا ReKa» يوجد ضريح يسميه الناس بـ «ضريح صاري صلتوق» وقرية « بريلب » تبعد من مدينة « بييا Peja» التابعة لكوسوفا الحالية بحوالي 17 كلم [19] . [ ص: 105 ] وكذلك ذكر المؤرخ الكوسوفي « اسكندر ريزاي SKender Rizaj» أن ضريحا يسميه الناس بـ «ضريح صاري صلتوق» يوجد بالقرب من مدينة « بييا »، يزوره عدد كبير من المسلمين والنصارى [20] .

            ويرى العالم الكوسوفي الخبير في علم الجغرافيا « محرم سيرابرغ –Muharem Cërabreg» أن الضريح السابق الذكر الموجود إلى يومنا هـذا، من أهم الضرائح في مدينة « بييا » [21] .

            وعلى الرغم من المكانة التي حظي بها « صاري صلتوق » وسط أتباعه بصفة عامة وسكان البلقان بصفة خاصة، إلا أن هـنالك مجموعة من الناس كانت تبطن له الحقد والكراهية، مدفوعة بعوامل كثيرة، وقد استغل بعض هـؤلاء الأعداء الفرصة فقدموا له طعاما مسموما، وتجرأ أحدهم بطعنه بخنجر مما أدى إلى وفاته، وقد خلف «صاري صلتوق» ابنين هـما إبراهيم ومحمد سارا على نهجه في الطريقة ثم انضما إلى الدولة العثمانية [22] . [ ص: 106 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية