الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            انتشار الإسلام في كوسوفا

            سامر بابروش أحمدي

            الفصل الأول

            «كوسوفا» قبل الفتح العثماني

            المبحث الأول

            الموقع الجغرافي لكوسوفا

            تعتبر دراسة الموقع الجغرافي أمرا مهما؛ لأنـها تظهر المزايا، التي يمتاز بها ذلك الموقع، من حيث المناخ الطبيعي وأهميته وثرواته وخصوصياته واتصاله بالعالم الخارجي؛ من أجل ذلك فسوف يتم إيضاح ما يأتي:

            معنى كلمة « كوسوفا »، أصلها وتطورها، والموقع الجغرافي، والدول المجاورة لها، وإمكانية التواصل بينها وبين العالم الخارجي. أولا: معنى كلمة «كوسوفا» في اللغة والاصطلاح

            - «كوسوفا» لغة

            إن لفظ «كوسوفا» مكون من جزئين، أما الأول «كاسا Kasa» وتعني العمق، وأما الثاني «وا va» فهو لفظ يستخدم لوصف الأماكن والمناطق، وبعد تركيب شقيها تصبح «كاساوا Kasava» وبهذا الاسم سجلت [ ص: 29 ] لأول مرة، ولكن اللفظ السائد والمؤرخ منذ القرن الثاني عشر هـو اللفظ «كوسوفا Kosova» [1] .

            فاستخراج المعنى التكويني لهذا الاسم المكاني يدلنا على أن هـذه التسمية قديمة وعريقة تاريخيا، ومعروفة تقريبا منذ العصر الأول الإيليري – الألباني، هـذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بناء على اللفظ «كاس Kas» كونت الأسماء الكثيرة منذ العصر القديم، مثلا: أسماء الرجال ككاس-ي-Kas-i، كاسيوس Kassius.. كاسو Kasu، وبعد ذلك أسماء القبائل، ككاسترات Kastrat، كاستريؤوت Kastriot.. أما الجزء الآخر «وا-va»، فإنه يضاف إلى آخراللفظة لوصف الأماكن والمناطق، مثلا: كوسووا Kosova، مارووا Marova، ساوا sava، إلى آخره [2] .

            وهناك من يقول إن: كلمة «كوسوفا» مأخوذة من «كاس كاس Kas Kas» وتعني الجبل، التل، و «وا va» وتعني السهل الواسع المرتفع [3] . ولكلمة «وا va»، معان كثيرة في اللغة الألبانية، وهي:

            - مخاضة، مثلا: مخاضة البحيرة [4] . [ ص: 30 ] - المضحل (المكان الذي يقل فيه الماء) في نهر ما، الذي يفتح حتى يتسع حجمه، ويمكن المرور عبره حتى تطلع إلى جهة أخرى [5] .

            - ممر المشاة، والرصيف في الغابة أو في الحقل [6] .

            - الحل والمخرج للنجاة من الظروف الصعبة [7] .

            - « كوسوفا » اصطلاحا:

            إن كلمة «كوسوفا Kosova» اسم لمنطقة معروفة في البلقان، استوطنها قديما الداردانيون الأصليون، وكان ذلك، كما يقال، قبل الميلاد، ويستوطنها حديثا الألبانيون (سكان «كوسوفا») وهم أحفاد الداردانيين.

            وإن أصل كلمة «كوسوفا» أصل ألباني، ينطقها الألبانيون «كوسوفا» بفتح الفاء، وأما الصرب والأوروبيون فينطقونها «كوسوفو» بضم الفاء [8] .

            اشتهرت «كوسوفا» قديما بـ «قوصوه» [9] وعرفت حديثا بـ «كوسوفا» ومعناهما واحد [10] . [ ص: 31 ]

            ثانيا: الموقع الجغرافي لكوسوفا

            تبلغ مساحة « كوسوفا » 10877 كلم مربع، وحسب الإحصائية التي أجريت في عام 1415هـ / 1994م، بلغ عدد سكان «كوسوفا» 2.175.000 نسمة، أكثر من 90% منهم ألبانيون أصليون، والمتبقون يتوزعون بين الصرب وأهل الجبل الأسود والغجر والأتراك.. وعاصمة «كوسوفا» هـي «بريشتينا Prishtina» التي يبلغ عدد سكانها 250.000 نسمة، وذلك بناء على إحصائية عام 1419هـ / 1998م [11] . وتغيرت الأحوال الإحصائية لسكان مدينة «بريشتينا» بعد الحرب، التي انتهت في الشهر السادس لعام 1420هـ/1999م، بحيث زاد عدد سكانها بشكل واضح وذلك خلال فترة قصيرة من الزمن حيث وصل تقريبا إلى 500.000 نسمة.

            تمتلك «كوسوفا» موقعا جغرافيا استراتيجيا، حيث توجد حولها جبال وغابات مترابطة ومتتالية. والجبال الأكثر أهمية وجمالا هـي جبال «شاري Sharri » التي تقع إلى الشرق من جبال ألبانيا الشمالية، وتحتل جزءا كبيرا من «كوسوفا» الجنوبية، ويصل أعلى جزء من هـذه الجبال إلى ألفين [ ص: 32 ] وخمسمائة متر، وبعضها مغطى بالثلج باستمرار، والمراعي في هـذه الجبال هـي أماكن مثيرة بجمالها، وأثناء الصيف ترعى فيها الماشية [12] .

            فالموقع الجغرافي، إلى جانب المساحة التي تحتلها الدولة، والمعادن والغابات والجبال والبحار والأنهار التي تتوافر عليها، هـي العوامل التي تتحكم في تقدمها واتصالها بالعالم الخارجي [13] .

            تعتبر الجبال «الألبية» في « كوسوفا » أعلى المناطق الكوسوفية، وهي من المناطق العليا في البلقان، حيث يصل ارتفاعها إلى أكثر من 2500 متر فوق سطح البحر؛ والطقس في الجبال الألبية شديد البرودة في الشتاء ويغطي الثلج بعضها شهورا، وفي بعض الأماكن الألبية الشاهقة لا يذوب الثلج أبدا، وفي هـذه الجبال تعيش حيوانات مختلفة، منها: الدب والذئب والخنـزير الوحشي والمـاعز والغزال والدجـاجة الوحشـية والديك الوحشي والحجل وغيرها [14] .

            وتقع «كوسوفا» في الجزء الرئيس لبلاد البلقان، وحدودها برية كلها، وترتبط بعلاقات مع العالم الخارجي بحكم موقعها وسهولة الوصول إليها؛ ولها أهمية تاريخية وعسكرية واستراتيجية، هـذا إضافة إلى توافرها على عدد [ ص: 33 ] كبير من الطرق المهمة؛ ولأجل ذلك كانت « كوسوفا » مستهدفة من الأجانب، مثل: الرومانيين والبيزنطيين والصربيين وغيرهم [15] .

            تقع «كوسوفا» في جـنوب شرقي أوروبا ، في وسط بلاد البلقان ، وليس لكوسوفا اتصال مباشر بالبحر الأدرياتيكي، ولكن لها طريقين للوصول إلى البحر الأدرياتيكي، فالأول يبدأ من مضيق «روغووا rugova» (20 كم طولا) ثـم يمر بالجهة الشمـالية الغربية لنهر «إيبري ibri» فالجبل الأسود فالبحر الأدرياتيكي، وأما الثاني فهو عبر واد لنهر «درين الأبيض drini i bardhe» ثم ألبانيا ثم البحر الأدرياتيكي.. و «كوسوفا» محاطـة تقريبا من جميـع نواحيها بجبال عالية يصـل طولها في المتوسط إلى 2000 متر [16] .

            تمتلك «كوسوفا» كثيرا من الأنهار والأودية، التي تجري فيها وتصب في ثلاثة بحار هـي: البحر الأدرياتيكي، والبحر الأسود، وبحر إيجه، أما الأنهار الرئيسة في «كوسوفا» فهي ثلاثة:

            1- دريني الأبيض «Drini i bardhe» وهو أهمها، به شلال يصل طوله إلى حوالي 30 مترا، ويمتد هـذا النهر إلى 128 كيلو مترا منها 111.5 تقع داخل الأراضي الكوسوفية [17] . [ ص: 34 ] 2- إيبري «Ibri» يصل طوله إلى حوالي 280 كيلو مترا، ولكن 85 كيلو مترا فقط منه تقع داخل الأراضي الكوسوفية [18] .

            3- لبنسي «Lepenci» يصل طوله إلى 85 كيلو مترا، ويتميز بوجود كمية كبيرة من السمك من نوع السلمون المرقط – التروتة في مياهه [19] .

            وتشتهر « كوسوفا » بكمية كبيرة من النباتات المتنوعة، تصل إلى 2500 نوع؛ وتعتبر «كوسوفا» من أغنى المناطق البلقانية فيما يتعلق بالنباتات وتنوعها [20] .

            وتعتبر الأراضي الكوسوفية من أغنى المناطق الأوروبية من حيث المعادن، مقارنة بمساحتها الصغيرة، بحيث تمتلك «كوسوفا» كميات كبيرة من الرصاص والزنك، وتحتل أحد المراكز الأولى من بين الدول الأوروبية في هـذا الشأن [21] .

            وأكبر منجم للرصاص في «كوسوفا» هـو منجم «تربشا Trepca»، الذي يقع في مدينة « ميتروويتسا Mitrovica »، ويليه منجم «هايوالييا Hajvalija » و «كيشنيتسا Kishnica » وكلاهما موجود بالقرب من مدينة « بريشتينا Prishtina» [22] . [ ص: 35 ] بدأ استغلال معادن الأراضي الكوسوفية قبل الميلاد، وذلك من قبل الداردانيين أولا، وثم ازداد هـذا النشاط المركز لاستغلال تلك الأراضي بمجيء الاحتلال الروماني، وقد استمر هـذا الاستغلال حتى بعد مجئ البيزنطيين والعثمانيين وإلى يومنا هـذا [23] .

            والرومان هـم الذين قاموا بتشييد مساكن كثيرة في « كوسوفا » (داردانيا القديمة) في المناطق الغنية بالمعادن، مثلا: في مدينة « أولبييانا Ulpiana»، وهو اسم قديم لمدينة « بريشتينا Prishtina».. وفي العصر الروماني كان العبيد هـم الذين يشتغلون في المعادن أو «الإيليريون» الذين كانت عندهم خبرة في المعادن [24] .

            وفي القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين فتحت مناجم كثيرة وغنية في مدن « بلانا Pllana» و « بلاسيتسا Bellasica» و « بيروينيكو BerveniKu» و « تربشا Trepca» و « نوووبردا Novoberda» و « يانييوا Janjeva»، وكانوا يخرجون من هـذه المناجم: الرصاص والزنك والفضة والذهب، وغير ذلك [25] .

            يقول المؤلف البولندي « يووان دلوغاشي Jovan Dlugashi » الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي: «إن صربيا (كوسوفا) تملك مناجم كثيرة وغنية ومتنوعة» [26] . [ ص: 36 ] وقد أعجبت الدولة العثمانية بمناجم « كوسوفا » الغنية، بحيث يقول المؤرخ الإخبـاري التركي « دورسون بك Dursun beu» الذي عـاش في القرن الخامس عشر الميـلادي: إن «كوسوفا» تعتبر مركزا لجميع المناطق، وهي مملوءة بالمعادن مثل الذهب والفضـة، وكانت الإدارة العثمانية تهتم بصناعات المعادن، وذلك حتى قبل الفتح العثماني الكامل «لكوسوفا» الذي كان في عام 860ه\1455م؛ لأنها كانت قبل هـذا العام ترسل عمالها ومراقبيها إلى أهم المناطق وخاصـة الأسواق الرئيسـة، وإلى بعض المدن والمناجم التي كانت خارج مراقبة ممثلي الحكام الصربيين، وكان هـدف العثمـانيين من ذلك إعاقة تصدير الفضة ما دامت الدولة تحتاج إلى المعـادن، وبناء على مصدر يرجع إلى عام 833هـ\1429م فإن بعض الرجال من مدينة « دوبروونيك DubrovniK» قد اعتنقوا الإسلام - وذلك قبل الفتـح العثماني الكامل - وفي الحقيقة قد حدث ذلك طواعية [27] .

            وأحسب أن هـؤلاء الرجال، الذين اعتنقوا الإسلام، هـم الذين كانوا يشتغلون في المعادن التي كانت في داخل حدود «كوسوفا» الحالية، وذلك كخبراء في الشئون المعدنية. [ ص: 37 ] كانت الإدارة العثمـانية تـهتم اهتماما بالغـا بالاستكشافات للمناجم بمختلف أنواعها، لحاجتها لها لتوفير احتياجات الجيش العثماني الكبير من السلاح [28] .

            ولكي تتضح، أكثر فأكثر، فكرة علو منـزلة «كوسوفا» ومقامها المركزي في هـذه المنطقة البلقانية يكفي أن نذكر هـنا ما أشرنا إليه سابقا من أن الأنهار التي تنبع من « كوسوفا » تفيض في ثلاثة شواطيء بلقانية وهي: إيجه، والبحر الأسود، والبحر الأدرياتيكي [29] .

            إن المعلومات الجغرافية، التي أشرنا إليها في هـذا الجزء من البحث، توضح لماذا كانت «كوسوفا» تتمتع بأهمية تاريخية باستمرار [30] . [ ص: 38 ]

            ثالثا: الدول المجاورة لكوسوفا

            تقع « كوسوفا » في قلب بلاد البلقان، التي تسمى اليوم بأوروبا الشرقية.. و «البلقان» كلمة تركية أصيلة ومعناها: الجبل الوعر المكسو بالغابات. وتشمل كلمة «بلقان» عدة دول، هـي: كرواتيا ، صربيا [31] ، الجبل الأسود [32] ، «كوسوفا»، سلوفنيا ، ألبانيا ، مقدونيا ، البوسنة والهرسك ، [ ص: 39 ] بلغاريا ، رومانيا ، اليونان ، والجزء الأوروبي لتركيا

            [33] ؛ والذي يزور أية دولة من الدول البلقانية فإنه سيجد فيها الجبال والغابات، وبصورة كثيفة في كل ناحية من نواحيها. يقول العالم الألباني «شمس الدين سامي فراشري» في كتابه الشهير «قاموس تركي»، وهو باللغة التركية القديمة، ويعتبر من المعاجم المعتمدة فيها: «بلقان- بالقان»: المكان الوعر، والمتتـالي بالجبال، أو الجبل المستور بالغابات، وسلسلة الجبال [34] ؛ وهناك من يقول: إن كلمة «بلقان» مشتقة من لفظة (بلقانجيا) باللغة التركية وتعني «الجبل»... والمناطق التي سميت باسم البلقان اعتبرت مركزا للحضارة الأوروبية القديمة، وعثر علماء الآثار في بلاد «البلقان» على آثار تدل على وجـود حيـاة بشرية فيها منذ سبعين ألف سنة قبل الميلاد... وهناك عوامل جغرافية كثيرة ومهمة كان لها تأثير كبير في التركيبة السكانية لبلاد البلقان وتاريخها وحضارتها، وأهم تلك العوامل هـي: اتصالها بالقارة الآسيوية [35] .. ونجد الفكرة نفسها عند الآخرين ممن يقول: إن كلمة «بلقان يعود أصلها إلى اللغة التركية، وهي تعني «الجبل»... وقد استوطنت مجموعات بشرية المناطق التي سميت [ ص: 40 ] باسم بلاد البلقان منذ العصر الحجري القديم [36] .. ويقول المؤلف الكوسوفي « د. محرم سربرغو Dr.Muharem Cerabregu»: إن التسمية «بلقان» تسميـة مشهورة في نطاق واسـع، ويمكننا من ناحية التكوين أن نقسمها إلى قسمين، قسم «بال Balle» وتعني باللغة الألبانية: جبهة، جبين، وقسم «آن Ane»، وتعني بالألباني: جهة، جانب.. واعتمدت وجهة نظره على ما يلي:

            - بناء على طبيعة تكوينها، بحيث يمكن استخراج معناها من كلمات اللغة الألبانية.

            - هـناك كلمة «بالتاك BalltaK »، وتعني بالألباني: الجبين الصغير، وهي كلمة مشهورة تستخـدم في اللغة الألبانية اليومية وتتكون من كلمتي «بال Balle» وتعني: الجبين، و «آك AK » وهي حرف لاحق (مقطع يضـاف إلى آخر اللفظة) . وفي الحقيقـة أن اسم «بلقان» يطلق على الأرض الخضـراء، أي الأرض الخصبة ذات الأمطـار الغزيرة وتكثر فيها الجبال [37] .

            وبعد استعراض هـذه الآراء الواردة في حقيقة معنى كلمة «بلقان» يترجح لدينا أن كلمة «بلقان» مأخوذة من اللغة التركية وتعني: «الجبل»، وسبب الترجيح هـو أن هـذا الرأي ورد في عدة مصادر موثوقة. [ ص: 41 ] والبلقان هـي جسر أوروبي أو تقاطع أوروبي بين أوروبا وآسيا ، هـي خلطة مكونة من عدة شعوب، أو هـي قوة ضرورية لأوروبا، وكل هـذه الأشياء تظهر أهمية هـذه المنطقة بالنسبة لأوروبا وآسيا، ومن أجل ذلك وقعت فيها عدة حروب في التاريخ السابق والمعاصر. وتعتبر البلقان جزيرة محاطة بثلاثة بحار وهي: البحر الأدرياتيكي في الغرب، البحر المتوسط في الجنوب وبحر إيجه والبحر الأسود في الشرق

            [38] ، يقول العالم البريطاني إدوارد. آ. فريمن Edward.A.Freeman، في الجغرافيا التاريخية لأوروبا: «اليونان والمستعمرات اليونانية» (Greece and the GreeK Colonies) : إن جزيرة البلقان كانت في العصر القديم مقسمة بهذا الشكل: إيليريا وتمتد في أعظم الجزء البلقاني، أي كانت تمتد من سلوفنيا Sllovenia إلى آبولونيا، وفي جنوب البلقان كانت تمتد مقدونيا وأبيري Epiri (Epiros) ، وفي شرق البلقان كانت تمتد ثراقيا ThraKia. ويعني هـذا أن «إيليريا» كانت تشمل كل أراضي يوغسلافيا السابقة وجمهورية ألبانيا الحالية

            [39] . [ ص: 42 ]

            وتحد « كوسوفا » مقدونيا

            [40] من الجنوب الشرقي، وصربيا من الشمال الشرقي، والجبل الأسود من الشمال الغربي، وألبانيا

            [41] من الجنوب الغربي، وتقع «كوسوفا» في الجانب الجنوبي من جمهورية يوغسلافيا السابقة. [ ص: 43 ]

            رابعا: اتصال «كوسوفا» بالعالم الخارجي

            كانت « كوسوفا »، كجزء رئيس من بلاد البلقان مأهولة بالسكان منذ ما قبل التاريخ، تؤكد ذلك نتائج الكشوفات الأثرية التي قام بها العلماء الأجانب والألبان [42] ، حيث عثر فيها على صنم يرجع تاريخه إلى نحو خمسة آلاف وخمسمائة سنة.. وقد كان لموقع بلاد البلقان المتميز، الذي جعل منها جسرا يربط بين آسيا وأوروبا، دور في استقرار العنصر البشري بها منذ فترة ما قبل التاريخ [43] .

            وكانت «كوسوفا» ملتقى لطرق القوافل التجارية والعسكرية القادمة من الاتجاهات المختلفة، ولذلك فإن الذي يحكم «كوسوفا» بإمكانه أن يراقب المداخل الاستراتيجية من جهة البوسنة وألبانيا الشمالية ، وبإمكانه أيضا أن يتحكم في الاتصال بين صربيا ومقدونيا [44] .

            وكانت «كوسوفا» تسمى باسم «داردانيا Dardania» [45] في العصور القديمة.. وظهر اسم « داردانيا » في المصادر القديمة لأول مرة في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كما أن قواتها كانت من القوات الرئيسة في البلقان في الفترة ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد.. كانت «داردانيا» الإقليم [ ص: 44 ] الأخير للإيليريين، الذي اعترض على التدخل الروماني، ولكنها سقطت وفقدت استقلالها بتدخل الاحتلال الروماني في أراضيها.. وبعد انضمام «داردانيا» للاحتلال الروماني بدأ سكانها ومدنها يتأثرون باللاتينية الرومانية، وكذلك بدأ الإيليريون ينخرطون في العسكرية الرومانية وفي إدارة الدولة، واستطاع الإيليريون وخاصة الداردانيون منهم أن يصلوا إلى المناصب العليا في الإمبراطورية الرومانية، بداية من القرن الرابع الميـلادي. ويؤيـد ذلك ما ذكره بعض المؤرخين أن قنسطنطين الأكبر الذي نقل المقر الرئيس للإمبراطورية الرومانية إلى شواطئ البوسفور من عائلة داردانية، وقد أسس قنسطنطين الأكبر مدينة جديدة سميت روما الجـديدة، ولكن تغير اسمها فيما بعد، وسموها القسطنطينية نسبة لمؤسسها قنسطنطين، وهي المدينة التي تسمى اليوم باسم « استانبول ».

            وفي القرن الرابع الميلادي انقسمت الإمبراطورية الرومانية رسميا إلى قسمين، وأصبحت الإمبراطورية تقف على رجلين، رجل في الشرق بمقرها الرئيس في مدينة قنسطنطينية، ورجل في الغرب بمقرها الرئيس في مدينة روما، وبهذا الانقسام انضمت «داردانيا» للإمبراطورية الشرقية، أي بيزنطية. وبعد الحرب المشهورة في «كوسوفا» التي وقعت في عام 1389م بين الدولة العثمانية الإسلامية والشعوب الأخرى المتحالفة وانتصار العثمانيين فيها انضمت «داردانيا» إلى الدولة العثمانية [46] .

            وكانت مدينة « نائيسي Naisi» ( نيش Nish الحالية – مدينة صربية ) [ ص: 45 ] مركزا رئيسا للداردانيا القديمة، وقد ساعدها موقعها المميز على النمو والتطور. وكانت مدينة «اسكوب ShKup» المركز الثاني لداردانيا القديمة، وكانت لها علاقة بمراقبة الطرق المهمة وكذلك كانت لها أراض زراعية غنية [47] .

            تأسست المملكة الداردانية في القرن الرابع قبل الميلاد في الأراضي الكوسوفية الحالية والمناطق التي حولها، وكانت حدود هـذه المملكة في الشمال مدينة « نيش Nish»، وفي الجنوب مدينة « كوكس KuKs» (مدينة في ألبانيا الحالية) ، ويعتبر «لونغار Longar» أول ملك لمملكة «داردانيا»، ويأتي بعده «باتو Batu»، و «مونون Monun». ويذكر الكتاب القدامى أن الأراضي الداردانية كانت واسعة ومناسبة للزراعة، ويذكرون بأن سكانها كانوا مشهورين بصنعة الذهب، وبمنتجات الحليب وخاصة الجبنة التي كانت معروفة. ويخبرنا هـؤلاء الكتاب القدامى بأن الداردانيين كان لديهم أرقاء كثيـرون، فكان الدارداني الواحد يملك ألفا من الرقيق أو أكثر، وكل هـؤلاء الأرقاء كانوا يشتغلون في الزراعة عند سيدهم، أثناء السلم، وأما أثناء الحرب فكانوا يشتركون في الجيش، وكان على رأس ذلك الجيش سـيدهم. كان لداردانيا جيش قوي منظم جدا، وقد برزت قوة هـذا الجيش الدارداني المميزة في القرن الثالث قبل الميلاد عندما نزلت القبائل الكلتية من أوروبا المركزية إلى البلقان، حيث أظهر قدرته على الدفاع عن داردانيا واستعدوا لمناصرة المقدونيين أيضا من [ ص: 46 ] هجمات القبائل الكلتية [48] .

            ظهر اسم داردانيا في المصادر القديمة لأول مرة في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كما أن قواتها كانت من القوات الرئيسة في البلقان في الفترة ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد [49] .

            كان لوجود مقدونيا كدولة قوية ومعادية لداردانيا دور في تحجيم المكانة السياسية لداردانيا في بلاد البلقان، ولكن بدأت داردانيا في الظهور كقوة مؤثرة بعد ضعف مقدونيا بسبب الهجمـات الكلتية على أراضيها وما دار بينهما من حروب، وتمكنت داردانيا من استغلال هـذه الظروف وتوسيع أراضيها على حساب مقدونيا [50] .

            وكلمة «داردانياDardania »: تعني في اللغة الألبانية «أرض الكمثرى»، ويقول المؤرخ الألباني « طيار زاوالاني »: من الممكن أن الداردانيين الذين كانوا يسكنون في «كوسوفا» أخذوا اسمهم من كلمة «دارذا Dardha» معناها كمثرى. وقد سكن الإيليريون (وهم أول الشعوب التي استوطنت بلاد البلقان، وهم يعتبرون أجدادا للألبان، كما سيأتي عندما نتحدث عنهم) قديما في هـذه الأراضي (أي أراضي «كوسوفا» الحالية) . [ ص: 47 ] كانت ولاية «داردانيا» تشمل أراضي «كوسوفا» الحالية، وكانت المدينة الرئيسة لداردانيا «نايسوس Naissus » ( نيش Nish الحالية، وهي الآن مدينة صربية) وكانت المدينة الثانية «اسكوبShKup » (مدينة لمقدونيا الحالية، وهي عاصمتها اليوم) ، وكانت المدينة الثالثة « أولبييانا Ulpiana» (اسم قديم لبريشتينا، وهي عاصمة «كوسوفا» الحالية) . وفي عام 518م، أي في حكم الإمبراطور «آناستاس Anastas » (ولد الإمبراطور آناستاس في مدينة « دورس Durrse » - مدينة في ألبانيا الحالية - وحكم الإمبراطورية البيزنطية في عام 491 م وحكم تقريبا عشرين سنة) حدث زلزال قوي تسبب في انهيار أربع وعشرين مدينة لداردانيا ومنها مدينة اسكوب التي أصبحت ترابا كلها، أما المدينة القديمة «أولبييانا» التي بنيت في عصر الروم، وتقع في جنوب شرق اسكوب فقد عززها يوستينيان بأسوار جديدة وزينها بكثير من الأبنية الجديدة وسماها «يوستينيانا سكوندا Justiniana Secunda» [51] .

            وفي نهاية القرن الأول - قبل الميلاد - احتل الروم «كوسوفا»، وعندما انهار الجزء الغربي للإمبراطورية الرومية في عام 476م كانت أراضي «كوسوفا» تحت احتلال الجزء الشرقي لهذه الإمبراطورية، التي استمرت عشرة قرون ولكن باسم بيزنطة. وبلغت الإمبراطورية البلغارية أقصى نهضتها [ ص: 48 ] في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العاشر الملاديين في عصر القائد «سايمون Simone » 280 – 315هـ / 893 – 927م وكانت « كوسوفا » الحالية تحت حكم هـذا القائد كجزء من الإمبراطورية البلغارية. وبعد وفاة « سايمون » في عام 315هـ / 927م بدأت الإمبراطورية البلغارية تنهار ولكن بشكل تدريجي، وعادت البلقان مما فيها «كوسوفا» الحالية إلى أملاك الدولة البيزنطية [52] .

            وفي عام 366ه / 976م اندلعت ثورة في مقدونيا ضد الحكم البيزنطي بقيادة الإخوة الأربعة أبناء القائد «نيكولNiKolle » وتمكن أصغر هـؤلاء الإخوة من تأسيس إمبراطورية كبيرة، ومن ضمن الأراضي التي احتلها أراضي «كوسوفا» الحالية، ولكن نجاحاته لم تستمر طويلا حيث هـزمه القائد البيزنطي ( واصيل Vasil الثاني) في عام 405هـ / 1014م، وبعد مرور أربعة أعوام فقط جدد هـذا القائد الحكم البيزنطي في البلقان، وفي «كوسوفا» الحالية كذلك، ومنذ ذلك الحين انضمت «كوسوفا» إلى دولة بيزنطة وبقيت على ذلك إلى أن احتلها الصرب في نهاية القرن الثاني عشر [53] .

            استمر الحكم الصربي حتى عام 860هـ\1455م، وأثناء حكمهم أصبحت أراضي «كوسوفا» مركزا لصربيا وخاصة بعدما اتسعت صربيا من جهة الجنوب. وفي العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر الميلادي انتقل [ ص: 49 ] مركز الكنيسة من مدينة « شيج Zhice » الصربية إلى مدينة « بييا Peja» الكوسوفية [54] .

            وفي عام 860هـ / 1455م فتح الأتراك العثمانيون الجزء الأكبر من أراضي « كوسوفا » الحالية، أما في العقد السابع من القرن الخامس عشر الميلادي فقد حكم العثمانيون كل أراضي «كوسوفا» الحالية [55] .

            ولتسهيل إدارة «كوسوفا» ونواحيها قسمها العثمانيون لعدة ولايات في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين: كولاية « ووشيترنا Vuciterrna»، وولاية « بريزرن Prizren»، وولاية « دوغاجين Dugagjine»، وولاية « شكودرا ShKodra» [56] ، باستثناء بعض الأجزاء حول مدينة « ازوتشان Zvecan»، ومدينة «ميتروويتساMitrovica»، (المدينتان تابعتان لكوسوفا الحالية) ، وهاتان المدينتان كانتا في ذلك الحين تحت حكم البوسنة، وكذلك مدينة «كاشانيك KacaniK » (المدينة تابعة لكوسوفا الحالية) التي كانت تابعة لولاية «اسكوب ShKup» [57] . [ ص: 50 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية