الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            انتشار الإسلام في كوسوفا

            سامر بابروش أحمدي

            الفصل الرابع

            «كوسوفا» تحت سيطرة العثمانيين

            المبحث الأول

            وسائل العثمانيين لنشر الإسلام في «كوسوفا»

            من بين مشاكل دراسة تاريخ «كوسوفا» بحدودها الحالية قضية انتشار الإسلام بوساطة العثمانيين فيها [1] منذ ظهوره فصاعدا، وهناك أمور كثيرة تتعلق بانتشار الإسلام تحتاج إلى توضيح منها: ما هـي أشكال عملية انتشار الإسلام؟ وما هـي الوسائل التي استخدمها العثمانيون لنشر الإسلام في بلاد البلقان بصورة عامة وفي « كوسوفا » بصـورة خـاصة؟ وما هـي أحوال سكان «كوسوفا» المعيشية وظروفهم بعد وصول المد الإسلامي إليهم؟ وهل هـناك فرق في أوضاع سكانها الألبان قبل انتشار الإسلام فيها وبعده؟ للإجابة عن هـذه التساؤلات استعنت بأقوال المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، ألبانيين كانوا أم غير ألبانيين، وذلك لكي تظهر الحقيقة بارزة وناطقة أمام الجميع. [ ص: 137 ] إن الوثائق والمصادر المتوافرة تؤكد تأكيدا تاما بأن الاستقرار الكامل للنظام الإقطاعي [2] العثماني في الأراضي الألبانية عامة والكوسوفية بصورة خاصة فتح فرصا جديدة لتوحيد القومية الألبانية سياسيا وثقافيا، ولكن هـذه المرة تحت لواء الدين الإسلامي وحضارته المتقدمة [3] .

            كانت الدولة العثمانية بحكم كونها دولة إسلامية تعطي الأقلية الدينية غير المسلمة القاطنة داخل حدودها والمعترفة بسلطتها عليها الحق في الاحتفاظ بدينها وممارسة شعائرها الدينية، نظير دفع إتاوة سنوية وهي « الجزية »، التي هـي في الأساس تعتبر مقابلا للحماية التي كانت تتمتع بها هـذه الأقلية تحت ظل الحكم العثماني، وهكذا نلاحظ أن الحكم العثماني لم يستخدم الضغط المنظم والمباشر لاستئصال جذور الدين الموجود (المسيحي) وتبديله بالدين الإسلامي لا في ألبانيا ولا في « كوسوفا » [4] ، هـذا وقد بدأ الإسلام في الانتشار بشكل أوسع عند وصول الأتراك العثمانيين إلى الأراضي الكوسوفية، أي في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الميلادي على الأرجح [5] ، فمنذ ذلك الحين بدأ الدين الإسلامي يشق طريقه في أوساط [ ص: 138 ] تلك الشعوب، وبدأت هـذه الشعوب في التعرف على مبادئ الدين الجديد، وعلى أصحابه الذين كانوا يتوافرون على صفات حميمة وأخلاق حميدة وآداب جميلة، فوجدت مجموعات منهم ضالتها فيه فدخلت فيه، ثم توالى بعد ذلك دخول المجموعات الأخرى بعد ما شاهدت التحسن الواضح والملحوظ الذي حدث في حياة إخوانهم الذين دخلوا في الإسلام [6] .

            وإلى جانب الخصائص والمميزات التي يتميز بها الإسلام على غيره من الديانات، هـنالك عوامل أخرى كانت وراء انتشار الإسلام في «كوسوفا»، من بينها الاختلاف المذهبي [7] بين سكان « كوسوفا » وحكامهم الصرب، فالأولون كانوا على المذهب الأرثوذكسي الذي أجبرهم على التحول إليه من المذهب الكاثوليكي حكامهم الصرب، مع ذلك فهنالك مجموعة منهم قد حافظت على مذهبها الكاثوليكي، وهذه المجموعة الأخيرة عندما ظهر الإسلام في بلاد البلقان كانت أقل حماسا لاعتناقه من المجموعة، التي أجبرت على المذهب الأرثوذكسي [8] ؛ لأن هـذه الأخيرة قد اعتنقته على مضض [ ص: 139 ] وغصبا عن إرادتها، ويجدر بالذكر أن نشير هـنا إلى وجود طـائفة ثالثة في بلاد البلقان وهي طائفة البوغوميليين [9] التي تنتمي إلى منطقـة البوسنة ، وهذه الطـائفة قد دخـلت في معظمها في الإسـلام للامتيازات الكثيرة التي يتحصل عليها الداخل في الإسلام، ومن بينها المساواة مع إخوانهم المسلمين في الواجبات والحقوق، بما فيها تقلد الوظائف المختلفة في الدولة، طالما كانوا يتوافرون على شروطها، والانتماء إلى الثقافة والحضـارة العثمانية الإسـلامية، التي كانت في أوج عظمتها وقتـذاك، وتوظيف العثمانيين لفريضة الجهاد في الدفاع عن الأراضـي البلقانية التي آلت إليهم من خطر الدول النصرانية الأوروبية كالمجر ورومانيا التي أزعجها التقدم السريع للعثمانيين في بلاد البلقان وأحست بالخطر، وجيشت جيوشها للوقوف في وجه العثمانيين، الذين تمكنوا من إيقافها عند حدها، الشيء الذي رفع أسهمهم بين ألبان «كوسوفا»، ودفع مجموعات منهم للدخول في الإسلام [10] . [ ص: 140 ] وعلاوة على ما سبق فإن العثمانيين قد تبنوا سياسة تقوم على الاهتمام بالأمور الحياتية لرعاياهم بتشييد المدارس والمعاهد والكليات والمكتبات العامة والبيمارستانات والمساجد والاهتمام بالعلم والعلماء لتلبية حاجيات ومتطلبات محكوميهم من الخدمات المجانية التي تقدمها هـذه المؤسسات، وعلى العناية بالأسرى، وخاصة الصغار منهم، بتربيتهم وتنشئتهم تنشئة إسلامية سليمة ليصبحوا دعاة للإسلام وحماة له وسط إخوانهم وعشيرتهم وأينما حلوا [11] . ومن جانب آخر فقد سلك العثمانيون سياسة حكيمة تجاه رجالات الدين المسيحي بـ «كوسوفا» خاصة وبلاد البلقان بصفة عامة تقوم على احترامهم وتوفير مساحة كبيرة لهم للتحرك وممارسة نشاطاتهم المختلفة، وإعطاء الضمانات والعهود وإصدار المراسيم التي تنص على ذلك والتي من أمثلتها المرسوم الذي أصدره السلطان محمد الثاني المسمى بـ «عهد نامه» [12] .

            لم تكن العوامل السـابقة هـي وحدها التي كانت وراء انتشـار الإسلام في «كوسوفا» وإنما كانت هـناك عوامل أخرى لا تقل عنها أهمية وهي الوسائل التي استعان بها العثمانيون من أجل استقطاب الكوسوفيين للإسلام وتقريبهم منـه. ولأهمية هـذه العوامل نسلط الضوء عليها واحدا تلو الآخر. [ ص: 141 ]

            الوسائل التي استخدمها العثمانيون في نشر الإسلام في «كوسوفا»

            تتعلق تلك الوسائل ببعض الأسباب والأحوال المفضلة لانتقال الإسلام المنظم إلى الأراضي الألبانية [13] ، وفيما يأتي أهمها:

            أولا: إقامة حفلات الختان اهتم العثمانيون بإقامة الحفلات في المناسبات العامة والخاصة باعتبارها وسيلة ناجعة لجذب رعاياهم وجمعهم في مكان معين، وتقديم الوجه الاحتفائي في الإسلام إليهم من أجل استقطابهم، ومن الحفلات التي نالت اهتمامهم حفلات الختان التي كانت ظاهرة جديدة أدخلها العثمانيون في بلاد البلقان، وقد نجحت هـذه الحفلات في استقطاب عدد كبير من الكوسوفيين إلى الإسلام [14] .

            ثانيا: تشجيع المسيحيين على اعتناق الدين الإسلامي

            وذلك بإقامة حفلات شعبية عند اعتناق أحدهم الإسلام، ومده بكل ما يعينه على الحياة والاحتفاء به في المساجد [15] .

            ثالثا: القدوة الحسنة

            حرص العثمانيون على التمسك بالدين الإسلامي وأداء الشعائر الدينية، الشيء الذي أهلهم لنيل إعجاب بعض النصارى وجذبهم إلى الإسلام [16] . [ ص: 142 ]

            رابعا: إعطاء بعض الامتيازات لمن يعتنق الإسلام

            كمنحه الحق في الاحتفاظ بأرضه وممتلكاته وإقطـاع الأراضي له إن كان من المؤثرين في قومه إلخ... [17] .

            خامسا: الرفق بالرقيق والإحسان إليه

            كان العثمانيون يتعاملون مع الرقيق من المسيحيين معاملة تتسم باللين، وهذا من حسن إخلاصهم تجاه المبادئ الدينية الإسلامية، بحيث كانوا يعتقونهم إذا تيقنوا من إخلاصهم وولائهم حتى ولو بقوا على دينهم، كما كانوا يتولون رعاية الأرقاء وبصورة خاصة كبار السن منهم حتى بعد العتق، وبفضل حسن معاملة العثمانيين للرقيق النصراني أسلم العديد من الأرقاء [18] .

            سادسا: تحرير الأسرى النصارى إذا اعتنقوا الإسلام كان العثمانيون يعتقون أسرى الحرب من النصارى وغيرهم من الملل إذا دخلوا في الإسلام بمحض إرادتهم، وقد أسهم هـذا الأسلوب في زيادة عدد المسلمين وكثرتهم [19] .

            سابعا: الاهتمام بحفظ الأمن ومحاربة النعرات القبلية وإيقاف الفتن الطائفية حرص العثمانيون على تقديم الإسلام بالصورة التي تظهره على حقيقته كدين ينظر إلى معتنقيه نظرة تساوي بينهم في الحقوق والواجبات، [ ص: 143 ] وتغض الطرف عن ماعدا ذلك من انتماءات قبلية وعشائرية وطائفية؛ لأن استبعاد هـذه الجوانب من المعادلة السياسية والاجتماعية من شأنه أن يقرب الناس من بعضهم بعضا ويزيل ما بينهم من أحقاد وضغائن وفوارق اجتماعية ويقرب ما بينهم من مسافات، ويجعل منهم إخوة متحابين في الله، يحتكمون لقانون واحد ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويقدسون إلها واحدا هـو الله سبحانه وتعالى [20] .

            ثامنا: ابتعاد العثمانيين عن توظيف العنف في الدعوة شهدت الفترة السابقة لدخول العثمانيين بلاد البلقان صراعا بين المذاهب الدينية الكنسية في تلك البـلاد، وقد تضرر البلقانيون من هـذا التنافس والصراع لأن الكنائس الصربية والسلافية... مارست سياسـة تقوم على التطهير العرقي للأعراق، التي ترفض الدخول في المسـيحية على مذهبها، وقد مهدت هـذه السياسات الكنسية الطريق للدعوة الإسلامية، خاصة وأن الدعاة المسلمين العثمانيين قد اشتهروا بالمرونة واللين والحكمة عند تقديمهم دينهم للآخرين [21] .

            تاسعا: إتاحة الإسلام لمعتنقيه إمكانية الاحتفاظ بانتماءاتهم القبلية والجهوية كانت بلاد البلقان قبل الفتح العثماني لها متوزعة بين عدد من المذاهب والطوائف الدينية، وكان المنتمون لهذه الطوائف النصرانية من [ ص: 144 ] البلقانيين ينتسبون إلى الدولة أو المكان أو العنصر الذي تنتسب إليه طائفتهم، فالمنتسبون إلى الطائفة اليونانية يعتبرون يونانيين... إلخ وقد أرادت هـذه الطوائف من وراء سياستها هـذه قطع الصلة بين البلقانيين وانتماءاتهم القبلية والجهوية... إلخ، أما العثمانيون فبحكم إسلامهم وحرصهم على تبليغ الدعوة للآخرين فقد وفروا مساحة واسعة للعناصر البلقانية التي دخلت في الإسلام للبحث عن أصولها والانتماء إليها وإحياء تراثها، فانتهز الألبانيون هـذه الفرصة وأعـادوا نسب أنفسـهم إلى أصلهم القديـم أي الأصل الإيليري [22] .

            عاشرا: فتح الوظيفة العمومية أمام الجميع اهتم الإسلام بالمكونين الأساسين للإنسان: المادة والروح، لأجل خلق مجتمع سليم ومعافى. وجاءت نصوصه وتعاليمه في خدمة هـذين الجانبين، وانطلاقا من ذلك قدم الدعاة العثمانيون الإسلام من الناحية النظرية والعملية كدين متوازن يسعى لتلبية جميع حاجيات الإنسان بصورة تتماشى مع تعاليمه، ومن أبرز الوسائل التي تمكن الإنسان من تلبية حاجياته، خاصة المادية، منها العمل، ففتحوا فرصة الالتحاق بالوظيفة العمومية لجميع الألبانيين المسلمين، والترقي فيها إلى أعلى مراتبها وتقلد جميع المناصب عدا منصب السلطان [23] . [ ص: 145 ]

            حادي عشر: عدم المغالاة في الالتزامات المالية على رعاياهم (الاكتفـاء بالحـد الأدنـى في الالتزامـات المالية المفروضـة) كان أهل البلقان يعيشون حياة ضنكة قبل الفتح الإسلامي لبلادهم لكثرة الالتزامات المالية المفروضـة عليهم من قبل الإقطاعيين المسلطين عليهم من قبل الدول الحاكمة لبـلادهم، ولـم تنج من هـذه الالتزامات حتى ممتلكات الكنائس، ولما جاء العثمانيـون إلى بلاد البلقان وأخضعوها إلى سلطانهم لم يشترطوا فرض التزامات مالية على رعاياهم البلقانيين؛ لأنهم دعاة وليسوا جباة، وإنما اكتفوا بالحـد الأدنى منها لجذب البلقانيين للإسـلام، وقد وجدت سياستهم قبولا من الكوسوفيين لدرجة أن بعضا من رجال الدين الملتـزمين من السياسـات الصربية الإقطـاعية قد دخلوا في الإسلام [24] .

            ثاني عشر: تشجيع التجمعات السكنية المختلفة نقلت الدولة العثمانية أعدادا من النصارى إلى مساكن كانت أعدتها لهم مسبقا في أحياء خاصة بالمسلمين، لأجل إتاحة الفرصة للنصارى التعرف على الإسلام كنظام للحياة لأجل جذبهم إليه، ولتحقيق الهدف نفسه اختارت مجموعات من القبائل العثمانية المسلمة ووطنتها في مناطق خاصة بالنصارى [25] . [ ص: 146 ]

            ثالث عشر: الزواج بالنصرانيات يعتبر الزواج من النصرانيات من الوسائل الناجحة التي اتبعها العثمـانيون في الدعوة للإسلام؛ وذلك لأن الأبناء الذين ينتجون عنه يتبعون إلى دين أبيهم وفقا لقوانين الشرع الإسلامي التي يستند إليها هـذا الزواج، وقد شعرت الكنيسة الكوسوفية بخطورة هـذا الزواج على مستقبـلها فحرمت النصرانيات المتزوجات بالمسلمين من دخول الكنيسة فكانت ردة فعل بعضهن الدخول في الإسلام دين أزواجهن [26] .

            رابع عشر: اختيار بعض الدعاة من الكوسوفيين انتقى العثمانيون مجموعة من الكوسوفين الذين دخلوا في الإسلام وفقهوها في الدين، ثم أوكلوا إليها مهمة الدعوة بين بني جلدتهم؛ لأنها تشترك معهم في اللغة والثقافة، وتتميز عليهم بالإسلام، ولها من الإمكانيات ما يؤهلها لاختيار المدخل المناسب لقلوبهم وعقولهم [27] .

            خامس عشر: احترام عهودهم ومواثيقهم مع أهل الذمة التزم العثمانيون بالأسس والضوابط التي وضعها المسلمون لتقديم الإسلام إلى الآخرين منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . وبالنسبة إلى أهل الذمة فهم الذين اختاروا دفع الجزية، فقد كانت الدولة الإسلامية تمنحهم امتيازات كثيرة وتلزمهم إضافة إلى دفع الجزية الالتزام بسلوك معين تجاه المسلمين وتجاه أنفسهم. وقد [ ص: 147 ] أجمل المؤرخ البريطاني « نول مالكولم » هـذه الحقوق والواجبات حيث قال:... ولكن المسيحيين واليهود كانوا بصورة عامة يعتبرون رعايا-ذميين، ويعني ذلك أن قانونهم التشريعي يراعى شرعا بالرغم أنهم خاضعون (مطيعون) للدولة العثمانية، وكان المسيحيون يتمتعون بامتيازات تمنح لهم وهي عبارة عن حقوق قانونية مختلفة مثل: السماح بممارسة حياتهم الدينية، والاحتفاظ بكنائسهم، والاحتكام إلى محاكمهم الدينية، ولكن لم يكن مسموحا لهم حمل السلاح (وهذا المحظور لم يحترم مطلقا في الأراضي الألبانية) ، ولا ارتداء بعض ملابس المسلمين، وكما كان محرما عليهم قطعا سب الدين الإسلامي والمحاولة لتحويل المسلمين من الدين الإسلامي [28] .

            وعلاوة على ما سبق فقد كان مسموحا للجمعيات المسيحية المحافظة على أبنية كنائسها، أما في حالة رغبتها في توسيعها فقد كان مطلوبا منها استئذان السلطة المسلمة الحاكمة، وقد كانت هـذه الأخيرة في الغالب تسمح لهم بالتوسيع بل تذهب أبعد من ذلك في بعض الأحيان فتسمح لهم ببناء كنائس جديدة [29] .

            أما الذين يختارون خيار الحرب فإن معاملة العثمانيين لهم تختلف عن الذين اختاروا دفع الجزية. [ ص: 148 ]

            تقويم المؤرخين لوسائل العثمانيين في نشر الإسلام

            اختلفت وجهات نظر المؤرخين المحدثين حول الوسائل التي من خلالها نشر العثمانيون الإسلام في بلاد البلقان عامة و «كوسوفا» بصفة خاصة، وفقا لاختلاف مشاربـهم الثقافية ومنطلقاتـهم الفكرية والدينية، فمنهم من انطلق من المعاني التي تحمـلها كلمة الإسلام نفسها فرأى أن الهدف الأساس للإسلام أينما حل هـو تحقيق الأمن والسـلام والاستقرار، وأن المسلمين العثمـانيين قد حققوا هـذه المعاني في «كوسوفا»، حيث ضمـدوا الجراح ووفروا مناخا للتعايش السـلمي بين الأعراق والملل في وقت كانت الكنائس في أوروبا مصدرا لإثارة الفتن الدينية والتسلط والاضطهاد الديني [30] .

            وهنالك طائفة أخرى رأت أن العثمانيين قد أكرهوا الكوسوفيين ومارسوا عليهم الضغوط من أجل إجبارهم على الدخول في الإسلام [31] . ولكن واحدا من الغربيين أنفسهم وهو المؤرخ « توماس آرنولد » قد نظر في ادعاءاتهم هـذه فوجد أنها باطلة؛ لأنها تفتقر إلى الأدلة التي تدعمها [32] .

            كما أن الدكتور « شريف دلوينا » قد ذكر نقلا عن المؤرخ « آريستيث كولاي » بأن العثمانيين لم يجبروا أحدا على تغيير دينه بالقوة، وأن الكلام [ ص: 149 ] عن تغيير الدين بالعنف لدى الألبانيين هـو نتيجة خيالات القسيسين وأوهامهم، ولا يليق بالمؤرخين أن يقبلوا ذلك، ويصف هـذا الكلام بأنه كذب ونية سيئة [33] ، وأن الألبانيين اعتنقوا الإسلام؛ لأنه يتفق مع طبيعتهم [34] . وعلاوة على ما سبق فإن العنف لم يكن جزءا من السياسة العثمانية في «كوسوفا» على الإطلاق ولا في غيرها من بلاد البلقان لإجبار أحد على اعتناق الإسلام، ولم يكن له وجود حتى في المرحلة الأولى من الدعوة العثمانية إلى الإسلام في تلك المناطق [35] .

            ولم يستخدم المسلمون العنف في هـذا المجال في تاريخهم كله، فالقبائل العربية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم دخلت الإسلام بدون أي عنف، وبهذا الشكل بدأ الإسلام واستمر في كل العصور، ولم يجبر العرب أحدا من الإسبانيين على اعتناق الإسلام بالرغم من أنهم حكموهم من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الخامس عشر وكثيرون الذين اعتنقوا الإسلام خلال هـذه القرون، ولكن حينما رجع الحكم إلى الإسبانيين في عام 898هـ/1492م فإن الذي لم يرتد ويرجع إلى دينه القديم من الإسبانيين المسلمين قتل، ونجا الذي تمكن من الهرب إلى إفريقيا، ففي هـذه الحالة بإمكان كل واحد أن يقول: إن هـذا الأسلوب لتغيير الدين عنف فعلا [36] . [ ص: 150 ] فلو استخدم العثمانيون الأتراك أساليب العنف لتحقيق أهدافهم – على ما يزعم الجاهلون – لاستطاعوا أن يصلوا إلى تكوين اتحاد كامل، ولكنهم لم يستخدموها؛ لأن الدين الإسلامي لا يحل تلك الأساليب [37] ، والدليل على عدم استعمالهم لها خلو المكتبات من بحث علمي تناولها بالدراسة والتمحيص، بل على العكس من ذلك فإن العالم « روبرت ماتراني RobertMatrani» يقول: لم تكن للقيادة العثمانية نية أو خطة للتطهير العرقي للشعوب الخاضعة لها، ولم يكن هـناك ضغط ولا إجبار فيما يتعلق بتحويل الناس إلى عثمانيين ولا إلى مسلمين [38] .

            ولم يكن العنف الديني سمة متصلة بانتشار الدين الإسلامي لا قديما ولاحديثا، وفي تاريخه الذي كادت تمر عـليه خمسة عشر قرنا ولحسن الحظ لا يمكن أن يقال بأن العنف كان طريقا لانتشار هـذا الدين الحنيف [39] .

            وفي واقع الأمر فإنه لم يمنع أحدا من المسيحيين أو اليهود في « كوسوفا » من ممارسة حياتهم الدينية بل إن الحقوق والحريات الدينية التي تمتع بها غير المسلمين تحت الحكم العثماني لم يكن مسموحا بها لهم حتى في بلاد المسيحيين نفسها [40] .

            ويؤكد هـذه الحقيقة د. « شيرو تروهلكا » بقوله: لو انتشر الإسلام بالعنف الحكومي -من قبل العثمانيين- لما وجدت في القرن التاسع عشر مسيحيا واحدا [ ص: 151 ] ولا كنيسة ولا ديرا في بلاد البلقان . كما يؤكدها المؤرخ « علي بن مقصود » بقوله: إن العثمانيين لو أرادوا أن يجبروا شعوب بلاد البلقان على قبول اللغة والدين لما كنت تجد اليوم مسيحيا واحدا ولا شخصا يتكلم غير اللغة التركية – العثمانية؛ لأنهم حكموا هـذه الشعوب ستة قرون، أي عشرين جيلا. [41] .

            فالدعاة المسـلمون كانوا موجودين في « كوسوفا » ويعملون على نشر الإسلام بالطرق السـلمية فيها قبل مجيء العثمانيين إليها، والشاهد على ذلك استقرار أسرة حلبية سورية في قرية « مليك » التابعة لمدينة « دراغاش » الكوسوفية قبل عام 690هـ / 1291م وقد سميت هـذه الأسرة باسم «الآغا» وهي التي بنت جامعا في عام 690هـ / 1291م في هـذه القرية السابقة الذكر، ويعتبر هـذا المسجد أقدم المساجد في أراضي «كوسوفا» الحالية [42] .

            وهناك طائفة من المؤرخين نظرت إلى الجزية التي فرضها العثمانيون المسلمون على الكوسوفيين نظير الحماية التي كانت توفرها الدولة لهم وهي تقابل الزكاة بالنسبة للمسلمين، وكلا الضريبتين تأخذ أحوال الفقراء والمعدومين بعين الاعتبار، كضريبة عالية أراد العثمانيون من خلالها استنـزاف الكوسوفيين وإجبارهم على الدخول في الإسلام؛ لأن الدخول في هـذا الأخير يسقطها عنهم [43] . [ ص: 152 ] ولكن الدكتور «حسام الدين» يرى بأن هـذا الادعاء باطل ويفتقر إلى الدليل؛ لأن الجزية لا تعتبر عذابا؛ لأنه كان بإمكانهم دفعها، وهي مفروضة على الذكور فقط، ومن يدفعها كانت الخدمة العسكرية ترفع عنه، وكان هـذا الرفع مهما جدا في ذلك الحين؛ لأن الأسرة كانت تعتمد على الذكور كثيرا في اكتساب المعيشة، وهذا أهم من دفع الجزية، أما الذهاب إلى الخدمة العسكرية فقد كان صعبا جدا؛ لأن الذي يذهب إليها ما كان يعرف هـل سيرجع أم لا من كثرة الحروب، وإضافة إلى ذلك فإن غير المسلمين كان بإمكانهم أن يختاروا إما الخدمة وإما الجزية، وإمكانية الاختيار توسع الحرية ولا تضيقها [44] . ويسير في هـذا الاتجاه نفسه المؤرخ البريطاني « نول مالكولم » الذي يقول: إن الجزية في الدولة العثمانية كانت عبارة عن الغرامة السنوية والمخصوصة لغير المسلمين فقط من النصارى واليهود الذين كانوا يدفعونها للدولة العثمانية الإسلامية، وكانت الجزية مبنية على أحكام القرآن، وهي كانت واجبة على كل رأس رجل بالغ، ولكن رغم ذلك فإن المسلمين كانوا مطلوبين أن يدفعوا صـدقة سنوية خاصة لهم ألا وهي «الزكاة» [45] ، ولم يدفع الذمي - المسيحي واليهودي - لا الزكاة ولا الصدقة، وكانت المخالفات في المحاكم للدولة العثمانية مضاعفة للمسلمين، أي يدفعها المسلم ضعفا ما يدفعها الذمي، ولم تخطط الدولة العثمانية لتحويل الشعوب [ ص: 153 ] الخاضعة لها لأسباب اقتصادية ولا دينية [46] . وكانت هـذه السياسة لدى العثمانيين لجميع الشعوب، التي كانت تعيش داخل حدود دولتهم، دون نظر إلى اختلاف لغاتهم وعاداتهم، أي بغير استثناء مطلقا.

            إذن لماذا كانت الجزية اضطهادا دينيا لدى الألبانيين فقط، ولم تكن عند الشعوب الأخرى؟ وكيف استطاع الألبانيون أن يعيشوا بهذا الاضطهاد وبهذا التطهير العرقي طوال الحكم العثماني، الذي لم يكن أقل من خمسمائة سنة؟ وكيف استطاع الألبانيون أن يحافظوا على تقاليدهم وعاداتهم؟ هـناك من يقول: إن الدولة العثمانية كانت متخلفة، فكيف يعقل أن تكون أقوى دولة في العالم وقتذاك متخلفة [47] ؟

            فهذه الدعاوى باطلة ولا حجة لها، ويضحدها الواقع وقتذاك، فهناك مصدر تركي يقول: إن السلطان محمد الفاتح بعد أن فتح القسطنطينية مباشرة أصدر مرسوما تعهد بموجبه بضمان الحرية الدينية للمسيحيين داخل نطاق الحكم العثماني، بشرط أن يلتزموا بقوانين الدولة، وهذا يدل على تسامح ديني كبير في الدولة العثمانية [48] . [ ص: 154 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية