الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الرابعة : فيما إذا انضم إلى النجوم ديون على المكاتب لسيده أو لغيره ، أو له ولغيره . وفيها صور .

                                                                                                                                                                        الأولى : كان للسيد مع النجوم دين معاوضة ، أو أرش جناية ، فإن تراضيا بتقديم الدين ، فذاك ، وإن تراضيا بتقديم النجوم عتق .

                                                                                                                                                                        ثم المذهب أن الدين الآخر لا يسقط ، فللسيد مطالبته به . ولو كان ما في يده وافيا بالنجوم دون الدين ، فإذا أداه عن النجوم بإذن السيد ، فالحكم ما ذكرناه ، وللسيد [ ص: 260 ] منعه من تقديم النجوم ، فيأخذ ما معه عن الدين ، ثم يعجزه . وهل له تعجيزه قبل أخذه ؟ وجهان ، أصحهما : نعم .

                                                                                                                                                                        ولو دفع المكاتب ما في يده إلى السيد ، ولم يتعرضا للجهة ، ثم قال المكاتب : قصدت النجوم ، وأنكر السيد ، أو قال : أصدقه ، ولكن قصدت أنا الدين لا النجوم ، فقال القفال : يصدق المكاتب .

                                                                                                                                                                        وقال الصيدلاني : يصدق السيد ؛ لأن الاختيار هنا إليه ، بخلاف سائر الديون .

                                                                                                                                                                        قلت : قول القفال أصح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية والثالثة : إذا اجتمع عليه نجوم وديون للسيد أو لغيره ، أو له ولغيره ، فهو كالحر في الحجر عليه بالفلس ، وقسم ماله بين أصحاب الديون .

                                                                                                                                                                        وهل تحل بالحجر الديون المؤجلة ؟ طريقان . أصحهما : قولان ، كالمفلس .

                                                                                                                                                                        والثاني : تحل قطعا ؛ لأن للرق أثرا في إبطال الأجل ، ولهذا نص الشافعي - رحمه الله - أن الحربي إذا استرق وعليه دين مؤجل حل ، فإن قلنا : يحل ، قسم المال على الجميع ، وإلا فعلى الحال ، ولا يحجر عليه بالتماس السيد للنجوم ؛ لأنها غير مستقرة ، والمكاتب متمكن من إسقاطها .

                                                                                                                                                                        إذا ثبت هذا فإن كان ما في يد المكاتب وافيا بالديون ، قضيت وإلا فإن لم يحجر عليه ، فله تقديم ما شاء من الديون ، وله تعجيل الديون قبل المحل ، ولا يجوز تعجيل الديون المؤجلة بغير إذن سيده .

                                                                                                                                                                        وفي جوازه بإذنه الخلاف في تبرعاته بإذنه . وفي معناه ما إذا عجل الديون للسيد ، ومنهم من طرد الخلاف في تعجيل النجوم ذكره الروياني .

                                                                                                                                                                        وإذا قدم النجوم عتق ، وبقي دين الأجانب عليه ، ولا [ ص: 261 ] يجيء فيه الخلاف في إعتاق الجاني ؛ لأن العتق يحصل بالصفة السابقة على الجناية ، فهو كما لو علق عتق عبده بصفة ، ثم جنى فإن الجناية لا تمنع وقوع العتق بالتعليق السابق بلا خلاف ، والأولى أن يقدم دين المعاملة ، فإن فضل شيء جعله في الأرش ، فإن فضل شيء صرفه في النجوم .

                                                                                                                                                                        وسيظهر وجه هذا الترتيب إن شاء الله تعالى . وإن حجر عليه تولى قسمة ما في يده .

                                                                                                                                                                        وفي كيفية القسمة وجهان ، ويقال : قولان ، أحدهما : يقسم على قدر الديون ، وأصحهما يقدم دين المعاملة ؛ لأنه يتعلق بما في يده خاصة وللأرش متعلق آخر ، وهو الرقبة ، وكذا حق السيد بتقدير العجز يعود إلى الرقبة ، ويسوى بين النقد والعرض ، ثم يقدم أرش الجناية على النجوم ؛ لأن الأرش مستقر ، والنجوم [ معرضة ] للسقوط .

                                                                                                                                                                        وقال القاضي أبو الطيب : لا خلاف أن هذا الثاني مذهب الشافعي - رحمه الله - ، وإنما الأول إذا رضوا بالتسوية ، فإن عجز المكاتب نفسه سقطت النجوم .

                                                                                                                                                                        وفي دين المعاملة للسيد وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : يسقط أيضا ويصرف ما في يده إلى ديون الأجانب من معاملة وأرش ، فإن لم يف بالنوعين ، فهل تقدم المعاملة أم الأرش أم يسوى بينهما ؟ أوجه ، أصحها عند الشيخ أبي محمد ، والغزالي ونحوهما : الثالث .

                                                                                                                                                                        ثم ما تبقى من دين المعاملة يتبع به بعد العتق ، وما تبقى من الأرش يتعلق بالرقبة يباع فيه .

                                                                                                                                                                        ولو مات المكاتب قبل قسمة ما في يده ، انفسخت الكتابة ، وسقطت النجوم .

                                                                                                                                                                        قال ابن سريج ، وابن الصباغ : تسقط الأروش أيضا ؛ لأنها تتعلق بالرقبة ، وقد فاتت ، وبما في يده بحكم الكتابة وقد بطلت ، فعلى هذا يتعين صرف ما خلفه إلى المعاملة .

                                                                                                                                                                        وقال الصيدلاني والإمام والبغوي : [ ص: 262 ] تبقى الأروش وتعلقها بالمال ، فعلى هذا إن سوينا في صورة التعجيز فهنا أولى ، وإن قدمنا [ الأرش فكذا هنا ، وإن قدمنا ] المعاملة ، فهل تقدم هنا أيضا ، أم يسوى ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : التسوية ؛ لأنهما متعلقان بما خلفه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا لم يكن في يد المكاتب مال ، أو قسم الموجود ، إما على الديون جميعا بالسوية ، وإما على التقديم والترتيب ، وبقيت النجوم أو بعضها ، فللسيد تعجيزه ورده رقيقا .

                                                                                                                                                                        وإن بقيت الأروش أو بعضها فمستحق الأرش الباقي ؛ لعجزه لتباع رقبته في حقه ، ولا يعجزه بنفسه ؛ لأنه لم يعقده لكن يرفع الأمر إلى الحاكم ليعجزه صرح الأصحاب بهذا .

                                                                                                                                                                        وقال الإمام : ظاهر كلامهم أنه يعجزه بنفسه ، والوجه : الرفع إلى القاضي . فلو أراد السيد أن يفديه ويبقي الكتابة ، فهل يمتنع على مستحق الأرش التعجيز ويلزمه قبول الفداء ؟ وجهان : أرجحهما عند الإمام والغزالي : لا وأصحهما : نعم ، وبهذا قطع الجمهور .

                                                                                                                                                                        وأما صاحب دين المعاملة ، فليس له التعجيز ؛ لأن حقه لا يتعلق بالرقبة . ولو أمهله السيد ومستحق الأرش ، ثم بدا لبعضهم وأراد التعجيز ، فله ذلك .

                                                                                                                                                                        وإذا تحقق التعجيز ، سقطت النجوم ، ويباع في الأرش إلا أن يفديه السيد ، ودين المعاملة لا يتعلق بالرقبة على الصحيح .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكرنا أن الأصح تقديم دين الأجنبي على النجوم ، وهل يضارب السيد معهم بماله من دين المعاملة ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، وأما ما للسيد [ ص: 263 ] عليه من أرش جناية ، فقال ابن كج : يستوي السيد والأجنبي فيه في دوام الكتابة ، وأما بعد التعجيز ، فيباع في أرش الجناية للأجنبي ، ويسقط ما للسيد ؛ لأنه صار ملكه ، ولا يثبت للسيد على عبده أرش ، ويجوز أن يجعل فيه خلاف .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية