الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4815 41 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت فأمرني أن آذن له .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث ثبوت الحرمة بين عائشة وبين أفلح المذكور الذي هو عمها من الرضاع فلذلك أذن لها بدخول أفلح عليها ، وقال : إنه عمك لما قالت إنما أرضعتني المرأة ، ولم يرضعني الرجل كذا في رواية الترمذي فدل على أن ماء الرجل يحرم .

                                                                                                                                                                                  والحديث مضى في كتاب الشهادات في باب الشهادة على الأنساب وقد مضى الكلام فيه هناك ونذكره هاهنا بأكثر منه وأوضح فقوله : " إن أفلح أخا أبي القعيس " كذا هو في صحيح مسلم والنسائي أيضا ، وفي رواية لمسلم : أفلح بن أبي القعيس ، وكذا في رواية أبي داود وابن ماجه ، وفي رواية لمسلم قال : استأذن عليها أبو القعيس ، وفي رواية له وللنسائي قالت : استأذن علي عمي من الرضاعة أبو الجعيد فرددته قال هشام : إنما هو أبو القعيس والصواب أنه أفلح وكنيته أبو الجعيد وهو أخو أبي القعيس ، وقال القرطبي في المفهم : هذا هو الصحيح وما سوى ذلك وهم من بعض الرواة ولا يعرف لأبي القعيس ولا لأخيه أفلح ذكر إلا في هذا الحديث ، ويقال : إنهما من الأشعريين ، وفي رواية الترمذي قالت : جاء عمي من الرضاعة ذكرته مبهما .

                                                                                                                                                                                  وأفلح بفتح الهمزة واللام وسكون الفاء وبالحاء المهملة ، وأبو القعيس بضم القاف ، وفتح العين المهملة ، وسكون الياء آخر الحروف وبالسين المهملة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وهو عمها من الرضاعة " فيه التفات وكان القياس يقتضي أن تقول وهو عمي واختلف في كيفية ثبوت العمومة لأفلح هذا فزعم بعضهم ممن رأى أن لبن الفحل لا يحرم أن أفلح هذا رضع مع أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فكان عما لعائشة من الرضاعة ، وهذا خطأ يرده ما في رواية الترمذي ، عن عائشة قالت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل ، وكذا في رواية البخاري على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  والصواب أن عائشة ارتضعت من امرأة أبي القعيس وأفلح أخوه فصار عمها من الرضاعة ، وفي رواية لمسلم : جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة ، وفي رواية له : وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " جاء يستأذن عليها " فيه دليل على مشروعية الاستئذان ، ولو في حق المحرم لجواز أن تكون المرأة على حال لا يحل للمحرم أن يراها عليه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " بعد أن نزل الحجاب " فيه أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها ، ويجب عليها الاحتجاب منه بالإجماع ، وما ورد من بروز النساء فإنما كان قبل نزول الحجاب وكانت قصة أفلح مع عائشة بعد نزول الحجاب كما صرح به هنا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأبيت " أي امتنعت فيه دليل على أن الأمر المتردد فيه بين التحريم والإباحة ليس لمن لم يترجح عنده أحد الطرفين الإقدام عليه خصوصا بعد نزول الحجاب وتردد عائشة فيه هل هو محرم فتأذن له أو ليس بمحرم فتمنعه فامتنعت تغليبا للتحريم على الإباحة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأمرني أن آذن له " وفي رواية شعيب الماضية في الشهادات : " ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " ، وفي رواية سفيان : " يداك أو يمينك " وفي رواية مالك ، عن هشام بن عروة : " إنه عمك فليلج عليك " وفي رواية الحكم : " صدق أفلح ائذني له " .

                                                                                                                                                                                  واستدل بهذا الحديث على أن من ادعى الرضاع وصدقه الرضيع يثبت حكم الرضاع بينهما فلا يحتاج إلى بينة ; لأن أفلح ادعاه وصدقته عائشة ، وأذن الشارع بمجرد ذلك ورد هذا باحتمال أن الشارع اطلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة ، واستدل به أيضا على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره ، وقال بعضهم : وألزم بعضهم بهذا الحديث الحنفية القائلين إن الصحابي إذا روى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه ثم صح عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى لا بما روى ; لأن عائشة صح عنها أن الاعتبار بلبن الفحل ، وأخذ الجمهور منهم الحنفية بخلاف ذلك وعملوا بروايتها في قصة أخي أبي القعيس وحرموا بلبن الفحل ، وكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتبعوا عائشة ويعرضوا عن روايتها وهذا إلزام قوي ، انتهى . قلت : لو علم هذا القائل مدرك ما قالته الحنفية في ذلك لما صدر منه [ ص: 99 ] هذا الكلام ولكن عدم الفهم وأريحية العصبية يحملان الرجل على أخبط من هذا ، وقاعدة أصحابنا فيما قالوه ليست على الإطلاق بل هي لا يخلو الصحابي في عمله بما رأى لا بما روى أنه إن كان عمله أو فتواه قبل الرواية أو قبل بلوغه إليه كان الحديث حجة ، وإن كان بعد ذلك لم يكن حجة ; لأنه ثبت عنده أنه منسوخ فلذلك عمل بما رآه لا بما رواه على أن ابن عبد البر قد ذكر أن عائشة أيضا كانت ممن حرم لبن الفحل .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية