الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5949 4 - حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو شهاب، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الحارث بن سويد، حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين؛ أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا. قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه، ثم قال: لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "لله أفرح بتوبة عبده" وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، وهو قد نسب إلى جده واشتهر به، وأبو شهاب اسمه عبد ربه بن نافع الحناط، بالحاء المهملة والنون، وهو أبو شهاب الحناط الصغير، وأما أبو شهاب الحناط الكبير، وهو في طبقة شيوخ هذا، واسمه موسى بن نافع، وليسا أخوين، وهما كوفيان، وكذا بقية رجال السند. والأعمش سليمان، وعمارة، بضم العين المهملة وتخفيف الميم، ابن عمير، بضم العين وفتح الميم، التيمي تيم الله من بني تيم اللات بن ثعلبة، والحارث بن سويد التيمي تيم الرباب، وعبد الله هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وفيه ثلاثة من التابعين على نسق واحد، أولهم الأعمش، وهو من صغار التابعين، والثاني عمارة بن عمير، وهو من أوساطهم، والثالث الحارث بن سويد، وهو من كبارهم.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في التوبة عن عثمان بن أبي شيبة وغيره، ولم يذكر أن المؤمن يرى.. إلى آخر القصة، وأخرجه الترمذي في الزهد عن هناد وغيره، وأخرجه النسائي في النعوت عن محمد بن عبيد وغيره، وذكر قصة التوبة فقط. قوله: "حديثين" أحدهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، والآخر عن نفسه؛ أي: نفس ابن مسعود، ولم يصرح بالمرفوع إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال النووي وابن بطال أيضا: إن المرفوع هو قوله: "لله أفرح.." إلى آخره، والأول قول ابن مسعود، ووقع البيان في رواية مسلم مع أنه لم يسق موقوف ابن مسعود، ورواه عن جرير عن الأعمش عن عمارة عن الحارث قال: دخلت على ابن مسعود أعوده، وهو مريض، فحدثنا بحديثين؛ حديثا عن نفسه، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لله أشد فرحا.." الحديث.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إن المؤمن يرى ذنوبه" إلى قوله: "أن يقع عليه" السبب فيه أن قلب المؤمن منور، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ذلك عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل منه النجاة، بخلاف الجبل إذا سقط عليه لا ينجو عادة. قوله: "وإن الفاجر"؛ أي: العاصي الفاسق. قوله: "كذباب مر على أنفه" وفي رواية الإسماعيلي: يرى ذنوبه كأنها ذباب مر على أنفه، أراد أن ذنبه سهل عليه; لأن قلبه مظلم، فالذنب عنده خفيف. قوله: "فقال به هكذا"؛ أي: نحاه بيده أو دفعه وذبه، وهو من إطلاق القول على الفعل. قوله: "قال أبو شهاب" هو موصول بالسند المذكور. قوله: "بيده فوق أنفه" تفسير منه لقوله: "فقال به". قوله: "ثم قال"؛ أي: عبد الله بن مسعود [ ص: 281 ] رضي الله تعالى عنه. قوله: "لله" اللام فيه مفتوحة للتأكيد. قوله: "أفرح" وإطلاق الفرح على الله مجاز يراد به رضاه، وعبر عنه به؛ تأكيدا لمعنى الرضا عن نفس السامع، ومبالغة في تقريره. قوله: "بتوبة عبده" وفي رواية أبي الربيع عند الإسماعيلي: "عبده المؤمن" وكذا عند مسلم من رواية جرير، وكذا عنده من رواية أبي هريرة. قوله: "وبه"؛ أي: بالمنزل، أي: فيه مهلكة، بفتح الميم وكسر اللام وفتحها؛ مكان الهلاك، ويروى: مهلكة، على وزن اسم الفاعل، وقال بعضهم: وفي بعض النسخ بضم الميم وكسر اللام من الرباعي. قلت: لا يقال لمثل هذا من الرباعي، وليس هذا باصطلاح القوم، وإنما يقال لمثل هذا من الثلاثي المزيد فيه، وقال الكرماني: ويروى: وبيئة على وزن فعيلة من الوباء، وقال بعضهم: لم أقف على ذلك في كلام غيره، ويلزم عليه أن يكون وصف المذكر، وهو المنزل بصفة المؤنث في قوله: "وبيئة مهلكة". انتهى. قلت: عدم وقوفه على هذا لا يستلزم عدم وقوف غيره، ومن أين له الوقوف على كلام القوم كلهم حتى يقول: لم أقف؟ ودعواه اللزوم المذكور غير صحيحة; لأن المنزل يطلق عليه البقعة. قوله: "عليها طعامه وشرابه" وزاد الترمذي في روايته: وما يصلحه. قوله: "وقد ذهبت راحلته"، وفي رواية أبي معاوية: فأضلها فخرج في طلبها، وفي رواية مسلم: فطلبها. قوله: "أو ما شاء الله" شك من ابن شهاب، واقتصر جرير على ذكر العطش، ووقع في رواية أبي معاوية: حتى إذا أدركه الموت. قوله: "أرجع" بفتح الهمزة بصيغة المتكلم. قوله: "إلى مكان فرجع فنام"، وفي رواية جرير: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، وفي رواية أبي معاوية: أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه، فرجع إلى مكانه، فغلبته عينه. قوله: "فإذا راحلته عنده" كلمة "إذا" للمفاجأة، وفي رواية جرير: فاستيقظ وعنده راحلته طعامه وشرابه، وزاد أبو معاوية في روايته: وما يصلحه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية