الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، وإذا وجد الرجل قتيلا في دار نفسه فعلى عاقلته الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليهم ; لأنه لو وجد غيره قتيلا في هذه الدار جعل هو كالمباشر لقتله في حكم الدية ، فإذا وجد هو قتيلا فيها يجعل كأنه باشر قتل نفسه ، ومن قتل نفسه كان دمه هدرا ، والدليل عليه أن المكاتب إذا وجد قتيلا في دار من كسبه لا يجب فيه شيء لهذا المعنى ، وكذا لو أن عبده وجد قتيلا فيه كان موجبه عليه ، فإذا وجدوه فيها قتيلا لا يجب له على نفسه شيء فكذلك في الحر ولا ينظر إلى كون الدار في الحال لورثته ; لأن الوجوب باعتبار أصل الجناية وعند الجناية كانت الدار مملوكة .

( ألا ترى ) أنه لا تجب القسامة هاهنا ولو كان المعتبر هو الحال لكانت الدية على عاقلة ورثته وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله عليه الصلاة والسلام { لا يترك في الإسلام مفرح } أي مهدر الدم ، والمعنى فيه أنه وجد قتيلا في موضع لو وجد غيره قتيلا في ذلك الموضع كانت الدية عليه وعلى عواقله ، فإذا وجد هو قتيلا فيه كانت الدية على عواقله كما لو وجد واحد من أهل المحلة قتيلا في المحلة تجب الدية ، والقسامة على أهل المحلة بهذا المعنى ; ولهذا لا تجب القسامة هاهنا ; لأنه لو وجد غيره فيه قتيلا لكانت القسامة عليه دون عاقلته ، فإذا وجد هو قتيلا فيه يتعذر إيجاب القسامة بخلاف الدية وحقيقة المعنى فيه أن السبب وجود القتيل في ذلك المكان كما نص عليه عمر رضي الله عنه ، وإنما أغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم . وحين وجد هو قتيلا كانت الدار مملوكة لورثته لا له ; لأنه ليس من أهل الملك فتكون الدية عليهم ، وإنما قال : الدية على عاقلته بناء على الظاهر ، وهو أن عاقلة الوارث ، والمورث تتحد ، فإن كان في موضع تختلف العاقلة فينبغي [ ص: 114 ] على قياس هذه الطريقة أن تكون الدية على عاقلة الورثة ، وهو الأصح وعلى قياس الطريقة الأولى على عاقلة القتيل ، ثم إذا وجد غيره قتيلا في داره إنما يجعل الدية ، والقسامة عليه باعتبار الظاهر ; لأن الظاهر أن غيره لا يتمكن من ذلك في ملكه وهذا لا يوجد فيما إذا وجدوه قتيلا فيها ، فالظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه ; فلهذا يجعل كأن غيره قتله وعند القتل كان التدبير في حفظ ذلك الموضع إليه ، فإذا فرط في ذلك وجبت الدية على عاقلته لورثته .

فإن قيل إذا قلتم تجب الدية على عاقلة الورثة فكيف يستقيم أن تعقلوا عنهم قلنا ; لأن الدية تجب للمقتول حتى أنه يقضي منها ديونه وتنفذ وصاياه ، ثم يخلفه الوارث ، وهو نظير الصبي أو المعتوه إذا قتل أباه فإنه تجب الدية على عاقلته ويكون ميراثا له وهذا بخلاف المكاتب يوجد قتيلا في دار نفسه ; لأن هناك إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له باعتبار عقد الكتابة ، وعقد الكتابة باق بعدما وجد فيه قتيلا ; فلهذا جعل كأنه قتل نفسه فأما هاهنا إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له لقيام ملكه في الدار حين وجد القتيل وذلك غير موجود فيما إذا وجد هو قتيلا فيه فإن الملك منتقل إلى ورثته ; فلهذا افترقا ، والقتيل عندنا كل ميت به أثر ، فإن لم يكن به - أثر فلا قسامة فيه ولا دية إنما هذا ميت ; لأن حكم القسامة ثبت شرعا في المقتول ، والمقتول إنما مات حتف أنفه بالأثر فمن لا أثر به ، فهو ميت فلا حاجة بنا إلى صيانة دمه عن الهدر بخلاف من به أثر ، وهو نظير من وجد في المعركة وبه أثر يكون شهيدا لا يغسل ، فإن لم يكن به أثر غسل ، وكذلك إن كان الدم يخرج من موضع يخرج الدم منه عادة من غير جرح في الباطن كالأنف فلا قسامة فيه ، وإن كان لا يخرج الدم منه عادة إلا بجرح في الباطن كالأذن ، فهو قتل ، وقد بينا هذا في الشهيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية