الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما ما يزيد على ذلك في البدن فهي الأسنان يجب في كل سن نصف عشر الدية ; لما روينا من الحديث ويستوي في ذلك الأنياب ، والنواجذ ، والضواحك ، والطواحين ومن الناس من فضل الطواحين على الضواحك لما فيها من زيادة المنفعة ، ولسنا نأخذ بذلك ; لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : { في كل سن خمس من الإبل } من غير تفصيل ثم إن كان في بعضها زيادة منفعة ففي بعضها زيادة جمال ، والجمال في الآدمي كالمنفعة حتى قيل : إذا قلع جميع أسنانه فعليه ستة عشر ألفا ; لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنا فإذا الواجب في كل نصف عشر الدية خمسمائة بلغت الجملة ستة عشر ألفا ، وليس في البدن جنس يجب بتفويته أكثر من مقدار الدية سوى الأسنان فإن قلع جميع أسنان الكوسج فعليه أربعة عشر ألفا ; لأن أسنانه ثمانية وعشرون ، هكذا حكي أن امرأة قالت لزوجها : يا كوسج : فقال إن كنت كوسجا فأنت طالق فسئل أبو حنيفة رحمه الله عن ذلك فقال تعد أسنانه فإن كانت اثنين وثلاثين فليس بكوسج ، وإن كانت ثمانية وعشرين فهو كوسج .

قال : وبلغنا عن علي رضي الله عنه قال : في الرأس إذا حلق ولم ينبت الدية كاملة ، وبهذا أخذ علماؤنا رحمهم الله وقال إذا حلق شعر رأس إنسان حتى أفسد المنبت فعليه كمال الدية الرجل ، والمرأة في ذلك سواء ، وقال الشافعي في شعر الرأس حكومة عدل ، وكذلك في اللحية إذا حلقت فلم تنبت كمال الدية عندنا [ ص: 72 ] وقال الشافعي رضي الله عنه حكومة عدل ; لأنه شعر مستمد من البدن بعد كمال الخلقة فلا يتعلق بحلقه كمال الدية كشعر الصدر والساق ; وهذا لأنه ليس في حلق الشعر تفويت منفعة كاملة إنما فيه فقط تفويت بعض الجمال فإنه يلحقه نوع شين على الوجه الذي لغير الكوسج بقلة شعره ، ووجوب كمال الدية يعتبر بتفويت منفعة كاملة ، والدليل عليه أن ما يوجب في الحر كمال الدية يوجب في العبد كمال القيمة ، وبالاتفاق لو حلق لحية عبد إنسان لا يلزمه كمال القيمة ، وإن أفسد المنبت ، وإنما يلزمه النقصان فكذلك في حق الحر .

وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه فإن ما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن ذلك لا يستدرك بالرأي ، والمعنى فيه أنه فوت عليه جمالا كاملا فيلزمه كمال الدية كما لو قطع الأذنين الشاخصتين ، وبيان ذلك أن في اللحية جمالا كاملا في أوانه ، وكذلك في شعر الرأس جمال كامل .

( ألا ترى ) أن من عدم ذلك خلقة تكلف لستره ، وإخفائه ، ولا شك أن في شعر الرأس جمالا كاملا ، وبعض المنفعة أيضا فما يحصل لها بالجمال من المنفعة أعظم وجوه المنفعة ، وكذلك في اللحية ، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : إن لله تعالى ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالقرون والذوائب } ثم تفويت المنفعة يوجب كمال الدية كما إذا ضرب على ظهره حتى انقطع ماؤه فكذلك تفويت الجمال الكامل يوجب كمال الدية ; لأن الغرض للعقلاء في الجمال أكثر مما هو في المنفعة بخلاف شعر الصدر ، والساق فليس في حلقه تفويت جمال كامل فلهذا لم يؤثر ذلك في النقصان فلا يجب شيء .

فأما في لحية العبد فروايتان روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب كمال القيمة ، وفي ظاهر الرواية يجب نقصان القيمة ، وهو نظير الروايتين في قطع الأذنين الشاخصتين من العبد ففي رواية الحسن قال : القيمة في العبد كالدية في الحر فما يجب بتفويته كمال الدية في الحر يجب بتفويته كمال القيمة في العبد ، وفي ظاهر الرواية قال : الجمال غير مقصود للمولى من عبده ، وإنما المقصود منفعة الاستخدام وبحلق لحيته أو قطع الأذنين الشاخصتين منه لا يفوت هذا المقصود ; فلهذا لا يجب به كمال القيمة فأما الجمال فمقصود في الأحرار وبتفويته يجب كمال الدية ، وتكلموا في حلق لحية الكوسج ، والأصح في ذلك ما فصلهأبو جعفر الهندواني رحمه الله إن كان الثابت على ذقنه شعرات معدودة فليس في حلق ذلك شيء ; لأن وجود ذلك لا يزينه ، وربما يشينه ، وإن [ ص: 73 ] كان أكثر من ذلك فكان على الذقن ، والخد جميعا ، ولكنه غير متصل ففيه حكومة عدل ; لأن في هذا بعض الجمال ، ولكنه ليس بكامل فيجب بتفويته حكومة عدل ، وإن كان متصلا ففيه كمال الدية ; لأنه ليس بكوسج ، وفي لحيته معنى الجمال الكامل ، وهذا كله إذا فسد المنبت فإن نبت حتى استوى كما كان لا يجب فيه شيء ; لأنه لم يبق لفعل الجاني أثر فهو بمنزلة الضربة التي لا يبقى أثرها في البدن ، ولكنه يؤدب على ذلك ; لارتكاب ما لا يحل له ، وإن نبتت بيضاء فقد ذكر في النوادر أن عند أبي حنيفة لا يلزمه شيء ; لأن الجمال يزداد ببياض شعر اللحية ، وعندهما يجب حكومة عدل ; لأن بياض الشعر جمال في أوانه ، فأما في غير أوانه فيشينه فيجب حكومة العدل باعتباره ، وقد بينا أن في أحد العينين نصف الدية ، ويستوي الجواب إن انخسفت أو ذهب بصرها ، وهي قائمة أو ابيضت حتى ذهب البصر ; لأن المنفعة المقصودة من العين تفوت في هذا كله ، وقيل : ذهاب البصر بمنزلة فوات العين فلا معتبر ببقائها بعدما ذهب البصر .

( ألا ترى ) أن من خنق إنسانا حتى مات عليه كمال الدية ، وإن كانت النفس باقية على حالها ، وكذلك اليد إذا شلت حتى لا ينتفع بها ففيها أرشها كاملا إما ; لأن الشلل دليل موتها أو لأن ما هو المقصود ، وهو منفعة البطش تحقق فواته بصفة الكمال فهو ، وما لو قطعت اليد سواء في إيجاب الأرش .

التالي السابق


الخدمات العلمية