الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران لكافر أو لمسلم بدين ألف درهم والعبد يجحد ، وعليه ألف درهم دين لمسلم أو كافر فشهادتهما عليه جائزة ، وإن كان صاحب الدين الأول مسلما ; لأن هذه البينة تقوم لإثبات الدين في ذمة الكافر ، وقد بينا أن انفكاك الحجر عنه بالإذن كهو بالعتق ، والحر الكافر يثبت عليه الدين بشهادة الكافر ، وإن كان له عبد مسلم فهذا مثله فإن كان صاحب الدين الأول كافرا بيع في الدينين ، وإن كان مسلما بيع العبد ، وما في يده في الدين الأول حتى يستوفي جميع دينه فإن فضل فهو للذي شهد له الكافران الآن ; لأن الأول استحق كسبه ، ومالية رقبته فلو قبلنا شهادة الكافر في إثبات المزاحمة للثاني معه تضرر المسلم بشهادة الكافر ، وذلك لا يجوز .

فإن قيل : حق الغريم المسلم في رقبته وكسبه لا يكون أقوى من حق المولى المسلم ، وقد بينا أن شهادة الكفار عليه مقبولة في حق مولى المسلم فكذلك في حق الغريم المسلم قلنا : المولى المسلم رضي بالتزام هذا الضرر حين أذن له في التجارة فأما الغريم المسلم فلم يوجد منه الرضا بالتزام هذا الضرر ، وفي إثبات هذه المزاحمة عليه ضرر ، ولو ادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألف درهم فشهد لأحدهما مسلمان وشهد للآخر بدينه كافران فإن القاضي يقضي بالدين كله عليه ، فيبدأ بالذي شهد له المسلمان ، فيقضي دينه فإن بقي شيء كان للذي شهد له الكافران ; لأن الذي شهد له المسلمان أثبت دينه بما هو حجة على العبد خاصة ، وثبوت الحق بحسب السبب فكان دين الذي شهد له المسلمان ثابتا في حق الذي شهد له الكافران ، ودين الذي شهد له الكافران غير ثابت في حق الذي شهد له المسلمان فلهذا يبدأ من كسبه وثمنه بقضاء دينه الذي شهد له المسلمان فإن بقي شيء فهو للذي شهد له الكافران ، ولو صدق العبد الذي شهد له الكافران اشتركا في كسبه وثمن رقبته ; لأن دينه ثبت بإقرار العبد ، والثابت بإقرار المأذون من الدين كالثابت بالبينة ، فيظهر وجوبه في حق الغريم الذي شهد له المسلمان ويتحاصان فيه ، ولو كان الذي شهد له الكافران مسلما والذي شهد له المسلمان كافرا [ ص: 40 ] والعبد يجحد ذلك كله بيع العبد واقتسما ثمنه نصفين ; لأن كل واحد منهما أثبت دينه بما هو حجة على العبد وعلى خصمه فاستوى الدينان في القوة .

ولو كان الغرماء ثلاثة كل واحد منهم يدعي ألف درهم أحدهم مسلم شهد له كافران ، والثاني مسلم شهد له مسلمان فإنه يقضي عليه بجميع الدين ويباع فيه ; لأن البينات كلها حجة عليه ثم يقسم ثمنه بين المسلم الذي شهد له المسلمان ، والكافر الذي شهد له المسلمان نصفين ; لأن كل واحد منهما أثبت دينه بما هو حجة على العبد ، وعلى الخصمين الآخرين فأما الثالث الذي شهد له كافران فقد أثبت دينه بما ليس بحجة على المسلم الذي شهد له المسلمان فلا يستحق المزاحمة معه في ثمنه .

وإذا لم تثبت المزاحمة صار كالمعدوم واستوى دين الآخرين في القوة فالثمن بينهما نصفان سلم للمسلم نصفه ، والنصف الذي صار للكافر بينه وبين المسلم الذي شهد له الكافران نصفين ; لأنه أثبت دينه بما هو حجة على هذا الكافر ، وإنما كان محجورا لحق المسلم ، ولم يبق في هذا النصف للمسلم حق ، وبينهما مساواة في قوة دين كل واحد منهما في حق صاحبه ، فيقسم هذا النصف بينهما نصفين ثم لا يكون للمسلم أن يأخذ من يد هذا الذي شهد له الكافران ما يأخذه من صاحبه ; لأن ذلك لا يفيد شيئا إذا أخذ ذلك أتاه الكافر الذي شهد له المسلمان فاسترد ذلك منه ; لأنه يساويه في الثمن فلهذا لا يشغل بذلك ، ولو كان أحد الغرماء مسلما شهد كافران ، والآخران كافران شهد لكل واحد منهما كافران بدئ بالمسلم ; لأن دينه ثبت بما هو حجة على خصمه ، ودينهما ثبت بما ليس بحجة عليه فإن بقي بعد دينه كان بين الكافرين ; لاستوائهما في ثبوت دين كل واحد منهما في حق صاحبه ، ولو كان العبد مسلما والمولى كافرا والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد له كافران والآخر كافر شهد له مسلمان ، والعبد يجحد ذلك فإن القاضي يبطل دعوى المسلم الذي شهد له كافران ، ويباع العبد الآخر في دينه ، فيوفيه حقه فإن بقي شيء من ثمنه فهو للمولى ; لأن المسلم إنما أقام شهودا كفارا على دينه ، وشهادة الكفار لا تكون حجة على العبد المسلم فما لم يثبت دينه على العبد المسلم فما لم يثبت دينه على العبد لا يستحق شيئا من ثمنه فلا يكون لهذا المسلم أن يزاحم الغريم الكافر فيما يأخذه ، ولا أن يأخذ من المولى شيئا مما بقي من ثمنه في يده بخلاف ما سبق فهناك الديون كلها تثبت على العبد ، وكذلك لو كان العبد محجورا عليه في هذا الفصل ; لأن أصل الدين لا يثبت عليه بشهادة الكفار ، وإن كان محجورا عليه ، وما لم يثبت عليه أصل الدين في ذمته لا يتعلق بمالية رقبته .

التالي السابق


الخدمات العلمية