الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : وفي ذكر الخصي ولسان الأخرس ، واليد الشلاء ، والرجل العرجاء ، والعين القائمة العور ، والسن السوداءوذكر العنين حكم عدل بلغنا ذلك عن إبراهيم ; وهذا لأن إيجاب كمال الأرش في هذه الأعضاء باعتبار تفويت المنفعة الكاملة ، وذلك لا يوجد ; لأن منافع هذه الأعضاء كانت فائتة قبل جنايته .

( ألا ترى ) أن من ضرب على يد إنسان حتى شلت أو على عينه حتى ذهب بصره يجب عليه الأرش فلولا تفويت المنفعة لما حل بها لما لزمه كمال الأرش ، فلو أوجبنا بالقطع بعد ذلك أرشا كاملا مرة أخرى أدى إلى إيجاب أرشين كاملين عن عضو واحد وقال مالك رضي الله عنه يجب في هذه المواضع الأرش كاملا ، ونقول : في قطعها تفويت الجمال الكامل ، والجمال مطلوب من الآدمي كالمنفعة بل الجمال يرغب فيه العقلاء فوق رغبتهم في المنفعة ، ولكنا نقول : في الأعضاء التي يكون فيها المقصود المنفعة ، والجمال تبع فباعتباره لا تتكامل الجناية في الأرش .

ثم في العين القائمة العوراء جمال عند من لا يعرف حقيقة الحال فأما عند من يعرف ذلك فلا ، فعرفنا أن معنى الحال في هذه الأعضاء غير كاملة بعد فوات المنفعة فلوجود بعض الجمال فيها أوجبنا حكم عدل فلانعدام الكمال فيها لا يوجب كمال الأرش ، وفي الضلع حكم عدل ، وفي الساعد إذا كسر أو كسر أحد الزندين حكم عدل ، وفي الساق إذا انكسرت حكم عدل ، وفي الترقوة حكم عدل على قدر الجراحة .

والحاصل أنه لا قصاص في شيء من العظام إذا كسرت إلا في السن خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم { لا قصاص في العظم } ; لأن القصاص ينبني على المساواة ، ولا تتحقق المساواة في كسر العظم ; لأنه لا ينكسر من الموضع الذي يراد كسره ، وبدون اعتبار المماثلة لا يجب القصاص فإذا تعذر إيجاب القصاص ، وليس فيها أرش مقدر كان الواجب فيها حكم عدل فأما في السن فيجب القصاص ، وهو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى في القصاص في السن وبين الأطباء كلاما في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس فمنهم من ينكر كون السن عظما ; لأنه يحدث وينمو بعد تمام الخلقة ويلين بالحل فعلى هذا لا حاجة إلى الفرق بينه وبين سائر العظام متى ثبت أنه ليس بعظم ولئن قلنا : إنه عظم ، وفي سائر العظام لتعذر اعتبار المساواة لا يجب القصاص ، وذلك لا يوجد هاهنا ; لأنه يمكن أن يبرد بالمبرد بقدر ما كسر منه ، وكذلك إن كان قلع السن فإنه لا يقلع منه قصاصا لتعذر اعتبار المماثلة فيه فربما تفسد [ ص: 81 ] به لهاته ولكن يبرد بالمبرد إلى موضع أصل السن فأما إذا كان خطأ فالواجب فيه الأرش كما بينا ، وهو المعنى في الفرق بينه وبين سائر العظام ; لأنه ليس لسائر العظام أرش مقدر ، وإنما يجب القصاص فيما يكون له أرش مقدر شرعا ولهذا قلنا في أصح الروايتين على ما ذكره الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله : أنه لا قصاص فيما دون الموضحة ; لأنه ليس فيه أرش مقدر شرعا ثم إن - ضرب على سنه حتى اسودت أو احمرت أو اخضرت فعليه أرش السن كاملا ; لأن الجمال ، والمنفعة يفوت بذلك .

وقال : السواد في السن دليل موتها فإذا اصفرت فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل وذكر هشام في نوادره عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل ، وفي الحر لا شيء ، وفي المملوك حكم عدل وعن محمد رحمه الله فيها حكم عدل ، وهو قول أبي يوسف ; لأن الجمال على الكمال في بياض السن فبالصفرة ينقص معنى الجمال فيها ، ولهذا يجب في المملوك حكم عدل فكذلك في الحر وأبو حنيفة رحمه الله يقول : الصفرة من ألوان السن فلا يكون دليل موت السن ، والمطلوب بالسن في الإحراز المنفعة ، وهي قائمة بعدما اصفرت فأما حق المولى في المملوك فالمالية وقد تنتقص باصفرار السن وعلى هذا لو قلع سن فنبتت صفراء أو نبتت كما كانت فلا شيء عليه في ظاهر الرواية ; لأن وجوب الأرش باعتبار فساد المنبت ، وحين نبتت كما كانت عرفنا أنه ما فسد المنبت ثم وجوب الأرش باعتبار بقاء الأثر ، ولم يبق أثر حين نبتت كما كانت ، وقد روي عن محمد في الجراحات التي تندمل على وجه لا يبقى لها أثر تجب حكومة بقدر ما لحقه من الألم ، وعن أبي يوسف رحمه الله يرجع على الجاني بقدر ما احتاج إليه من ثمن الدواء وأجرة الأطباء حتى اندملت وأبو حنيفة رحمه الله قال : لا يجب شيء ; لأنه لا قيمة لمجرد الألم .

( ألا ترى ) أن من ضرب ضربة تألم بها ، ولم يؤثر فيه شيء لا يجب شيء أرأيت لو شتمه شتيمة أكان عليه أرش باعتبار إيلام حل فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية