الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 286 ] الأمر الثاني: المعاوضة مع الوارث بمحاباة.

        المحاباة في اللغة: المسامحة.

        وفي الاصطلاح: أن يعاوض المريض ويسمح لمن عاوضه ببعض عوضه.

        وعند المالكية: البيع بأقل أو أكثر من القيمة بكثير، قصدا لنفع المشتري أو البائع.

        صورة المسألة: أن يعاوض المريض مرض الموت أحد ورثته في البيع أو الشراء، ويحابيه في المعاوضة، كأن يبيعه سلعة تساوي مئتين بمئة وخمسين، فالفقهاء -رحمهم الله تعالى- اختلفوا في صحة هذه المعاوضة على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: أن بيع المريض لوارثه بالمحاباة ينعقد موقوفا على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإن لم يجز الورثة فإن البيع يبطل في قدر المحاباة، ويصح فيما عداها.

        وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو المشهور عند الحنابلة.

        وعند الحنفية: يخير المحابى بين أن يدفع تمام القيمة -قدر المحاباة- [ ص: 287 ] فيسقط حق الورثة في الاعتراض عليه، وبين أن يفسخ البيع ويرد المبيع إلى التركة، ويأخذ الثمن.

        وعند المالكية: المحاباة كما تكون في الكمية تكون في الكيفية، كما لو باعه أفضل ما عنده مطلقا، فلا يجوز إلا بإذن، ونص المالكية على أن إجازة الورثة لقدر المحاباة ابتداء عطية منهم، فتفتقر إلى حوز، والمعتبر في قدر المحاباة يوم البيع، ولا عبرة بتغير ثمن السلعة المباعة بعد ذلك بزيادة أو نقص.

        وعند الشافعية: إذا باعه بثمن مثله جاز، وعندهم يجوز النقص عن ثمن المثل إذا كان مما يتغابن به الناس.

        ودليل هذا الرأي:

        1- ما تقدم من الأدلة على أن المريض مرض الموت ليس له أن يتبرع لوارث بشيء، إلا بإجازة الورثة.

        2- أن المحاباة في مرض الموت بمنزلة الوصية، والوصية لوارث لا تنفذ إلا إذا أجازها الورثة.

        القول الثاني: أن المريض إذا حابى وارثه في البيع بطل البيع في قدر المحاباة، وصح فيما يقابل الثمن المسمى، وللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ.

        وهو وجه عند الحنابلة، وهو الصحيح من المذهب عندهم.

        دليلهم:

        أولا: استدلوا على صحة البيع فيما يقابل الثمن المسمى: بأن البطلان إنما جاء من المحاباة، فاختص بما قابلها، والأصل صحة العقود. [ ص: 288 ]

        ثانيا: استدلوا على ثبوت الخيار للمشتري; لأن الصفقة تفرقت عليه، فشرع له الخيار؛ دفعا للضرر عنه.

        ونوقش هذا الاستدلال: تخصيص بطلان البيع بقدر المحاباة بأنه تفريق من غير دليل; لأن البيع انعقد على جميع المبيع، فكيف يبطل في جزء منه ويصح في الجزء الآخر؟.

        وأجيب: بأنه لا يمتنع صحة بعض المبيع وبطلان بعضه كتفريق مسائل الصفقة، كما لو باع ملكه وملك غيره، فيصح في ملكه، ولا يصح في ملك غيره.

        القول الثالث: أن المريض إذا حابى وارثه يبطل البيع، ومن باب أولى تبطل المحاباة.

        وهو قول بعض المالكية، ووجه ثالث عند الحنابلة.

        واستدلوا بما يلي:

        1- أن المحاباة عطية لوارث، والعطية في المرض باطلة عند المالكية -على المشهور عندهم- لأن حكمها حكم الوصية.

        ونوقش هذا الدليل: بأن يقال: لا يسلم بطلان الوصية لوارث مطلقا، بل الصحيح توقف نفاذها على إجازة الورثة.

        2- أنه لا يمكن تصحيح البيع على الوجه الذي تواجبا عليه، فلم يصح، كتفريق الصفقة. [ ص: 289 ]

        ونوقش: هذا الدليل بعدم التسليم، بل إن تصحيح البيع ممكن، وذلك بجعله موقوفا على إجازة الورثة.

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن بيع المريض بالمحاباة لوارثه ينعقد موقوفا على إجازة الورثة; إذ فيه مصلحة المريض، ودفع الضرر عن الوارث.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية