الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        مقدمة

        الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

        وبعد..

        فلقد وقفت أمام إنتاج الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، فتمثلته بيتا ضخما وبناء شامخا، مكونا من عدة غرف، لكل غرفة طابع خاص يغلب عليها مع احتفاظها بجزئيات تضمن اتساقها مع بقية الغرف الأخرى، ليضمن في المقام الثاني وحدة البناء.

        فكنت في كل مرة أدخل غرفة، أتملى جزئياتها، على أمل أن يتوفر الوقت والجهد والعدة المنهجية والمعرفية الكافية، للكشف عن الصورة الكاملة والمتكاملة للبناء.

        وما هذا العمل الذي أضعه بين يدي القارئ الكريم، إلا نتاج لبعض من تلكم (الزيارات) العجـلى لبناء بن نبي... فهي قراءات استكشافية، أكثر مما هي تحليلية نقدية.

        فالرجل على مدى مسيرته الفكرية الحافلة، كما وكيفا، طرق عدة مواضيع، ولكنه -وككل كاتب صاحب مشروع- لا بد وأن يكون قد صدر فيما كتب، عن رؤية كلية، وفكرة مركزية، وإن حاول تبسيطها وبسطها من خلال مداخل كثيرة، تبدو لصاحب الرؤية التجزيئية متباينة أو متنافرة. [ ص: 31 ]

        فالرؤية الكلية التي صدر عنها بن نبي، هي خلفيته الحضارية، كمسلم مؤمن بذاته وتميزه في هذا الوجود، بل ومقتنع بأنه بإمكانه أن يقدم للبشرية التائهة طوق النجاة.

        وأما فكرته المركزية، فهي مشكلة التخلف الحضاري الذي تعاني منه أمة الشهادة، فقد اقتنـع منذ كتاباتـه الأولى أن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمـكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها" [1] .

        أما المداخل، فهي تلك المسالك التي سلكها الأستاذ لتشخيص المشكلة، وإمداد الأمة بالفاعلية التي تمكنها من التحرك - استهداء بمرجعية الحق الذي بين يديها - كي تقوم بواجب الشهادة على الناس.

        وبن نبي، رحمه الله، يشكل في اعتقادي، ظاهرة في الثقافة الجزائرية المعاصرة، إذ لا نكاد نجد من بين مفكرينا من قارب إنتاجه، كما وكيفا... وفي الوقت ذاته، لانكاد نجد تفسيرا للتجاهل الذي عومل به الرجل على مدى عقود من الزمن ولا يزال... على الرغم من أننا نعاني حالة قحط فكري، وغياب شبه تام لأسماء يمكنها أن تشرفنا في ساحة الفكر والتنظير، كما هو الحال عند إخواننا في المغرب أو المشرق!! [ ص: 32 ]

        وكم هو مؤسف، أن ينطبق على مفكر من طراز بن نبي، مثال مغنية الحي التي لا تطرب!!. فيتعامى أهله عنه، بمعربيهم ومفرنسيهم، بإسلامييهم وعلمانييهم ... ويتلقفه الآخرون فيعطونه ما يستحق من مقام الأستاذية، ويعرفون له قدره وقيمته.

        وهذه الورقات التي أضعها بين يدي القارئ ليست سوى محاولة بسيطة للإشارة إلى هذا العلم، وإلى بعض أفكاره كما قرأتها، ولا يخفى على كل مهتم بما ينتجه أمثال بن نبي من أفكار ومشاريع، أن من بين جوانب العظمة فيما ينتجونه، أن يكون قابلا لأكثر من قراءة، فهو أقرب ما يكون للمواد الأولية التي تقبل التشكيل في أكثر من صورة... وعليه فلست أدعي أن في شيء مما كتب في هذا المقام، هو القراءة الوحيـدة لفكر مالك بن نبي... وإنما هي قراءة، قد يوافقني عليها الآخرون وقد ينقضونها.

        وسيجد القارئ في هذه الورقات الثلاث، ثلاثة نماذج للأفكار التي شغلت الأستاذ بن نبي، وشكلت عالمه الفكري.

        ففي الورقة الأولى: محاولة لرسم الخطوط العامة لمشروع بن نبي، مع التأكيد على مسألة مهمة طبعت مسيرته الفكرية، وهي عدم انفصال المفكر عن أفكاره، فهو لم يكن ينظر من بعيد، وإنمـا كان يفكر ويعيش أفكاره، فلا عجب أن يكتب لهذه الأفكار الحياة وإن غيب الثرى صاحبها... وهذه قيمة لا تعرف إلا في حياة العظماء الذين احتفظ لهم التاريخ بأعمار أطول بكثير من تلك التي تبدأ من لحظة الميلاد وتنتهي بالوفاة... إنها أعمار الأفكار حين يمنحها صاحبها الحياة، فتمنحه الحضور الدائم في دنيا الناس. [ ص: 33 ]

        وفي الورقة الثانية: أنموذج لقدرة بن نبي على تناول واحد من المواضيع الشائكة، والتي لا يزال يكتنفها الغموض، وهو موضوع علاقة الديني بالسياسي، انطلاقا من علاقة الديمقراطية بالإسلام، فمنذ أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتاب الإسلام وأصول الحكم (1925م)، والجدل لا يزال قائما بين الإسلاميين وغيرهم حول المسألة، بكثير من الضجيج والتهويل وقليل من المنهجية والتفكير العميق، أما بن نبي فقد قدم لنا درسا منهجيا في كيفية التعامل مع مثل هذه المواضيع، يجدر بأطراف الجدل أن يتعلموه.

        وفي الورقة الثالثة: أنموذج لقدرة الأستاذ على الرؤية الاستشرافية، وتلك ولا شك ميزة المفكر الجاد، الذي ينطلق من الواقع ليرسم لمجتمعه آفاق المستقبل، ولا يسمح لتفاصيل الواقع أن تلهيه عن النظرة الكلية المتجاوزة للحظة التي تأسر عادة أرباب السياسة... فنرى كيف تمكن بن نبي وهو يحلل ظاهرة الاستعمار - كما كان يعايشها - من أن ينبهنا لمخاطر العولمة - التي نعايشها اليوم - وسبل مقاومتها.

        وفي الأخـير أرجو أن أكون قد وفيت بجزء من حق بن نبي علينا... كما أرجو أن تتاح لي فرصة العودة مرة أخرى للكتابة عنه من زاوية التحليل والنقد، فإن نقد الأفكار أجدى - في أغلب الأحيان - من مجرد عرضها والتعاطف معها.

        وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 34 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية