الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        3- الإنسان... مركز البناء الديمقراطي:

        نصل الآن مع مالك بن نبي إلى جوهر أطروحته، فهو يرى أن الديمقراطية تبقى مجرد شعارات تلوكها الألسنة ما لم نتوجه إلى الجوهر، وجوهر البناء الديمقراطي هو (الإنسان).

        فالأسس الثلاثة للديمقراطية "الشعور نحو (الأنا) - الشعور نحو (الآخر)- الضمانات الاجتماعية والسياسية"، تدور كلها حول (الإنسان).

        فالإنسان هو أساس البناء الديمقراطي وجوهره ومركزه، ولكن ليس أي إنسان، وإنما هو الإنسان الحر، الذي يعرفه بن نبي بأنه: "الإنسان الجديد الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحد الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية ونافية الاستعباد" (ص139). [ ص: 63 ]

        فالديمقراطية لا يصلح لها إنسان يتجاذبه شعوران متناقضان:

        - شعور نحو ذاته بالعبودية.

        - شعور نحو الآخر بالاستعباد.

        فشرط الديمقراطية (تحرير الإنسان) حاكما ومحكوما من هاتين (الرذيلتين)، اللتين هما في الوقت ذاته (نافيتين) لكل القيم والالتزامات المصاحبة للديمقراطية.

        وها هنا يتضح لنا سر فشل التجارب الديمقراطية في الوطن العربي، على الرغم من الكم الهائل من الشعارات والدعاوى، بل والالتزامات الشكلية بآليات الديمقراطية، كالانتخابات والمؤسسات والدساتير... فالمسألة أساسا متعلقة بغياب أساس البناء الديمقراطي، الذي هو الإنسان، وليس أي إنسان، وإنما (الإنسان الحر).

        فتطوير الإنسان، وتخليصه من قيود الاستعباد، وإعادة تقييمه، هو نقطة البدء في أي بناء ديمقراطي، مهما كان مضمونه وفلسفته بعد ذلك.

        ومرة أخرى يعود بنا بن نبي إلى تجارب الديمقراطية الغربية، بنماذجها المختلفة، منبها إلى ما يطرأ على الإنسان في عمليات البناء الديمقراطي الجاد، من تطوير، قد نراه شكليا، لكنه يحيلنا إلى ذلك التطور العميق، المتمثل في الحركة التاريخية التي أعادت تقييم ذلك الإنسان.

        يقول: "ولهذا التطور ناحية شكلية، لها دلالتها عندما يضفى على هذا الإنسان (الحر)، لقب يعبر عن قيمته الجديدة، فبعد أن كان يعتبر (sujet) [ ص: 64 ] أي التابع إلى الملك أو مولاه، تسميه الثورة الفرنسية (citoyen) المواطن، وتحاكم الملك لويس السادس عشر فتسميه (المواطن كأبيه) أثناء المحاكمة، وبعد أن كان الفلاح الروسي يسمى (موجيك) في العهد القيصري، أصبح (الرفيق) بعد ثورة 1917" (ص139).

        ومرة أخرى أيضا، يعطي بن نبي لفكرته هذه صيغة القانون العام، "كل بناء ديمقراطي مشروط بإحداث تغيير في قيمة الإنسان" ؛ لأن "هذا هو المقياس العام الذي تقاس به الأشياء بالنسبة لأي تطور ديمقراطي، سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ، أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع" (ص140).

        وليس الإنسان الحر، جوهر البناء الديمقراطي فحسب، وإنما يراه بن نبي أيضا، الأساس الذي نميز به أنموذجا ديمقراطيا عن غيره، فالديمقراطية، وإن اتحدت في جوهرها بناء على الأسس الثـلاثة المشار إليها أعلاه، إلا أن تمثلاتها الواقعيـة تختـلف باختـلاف الظروف المكانية والزمانية التي تتم فيها التجربة، يقول بن نبي: "إن مرحلة التخلق والنشوء ترتبط بصورة شكلية، بتعبير جـديد نطلـقه على الإنسان، أي بتقويمه تقويما جديدا ليصبح (المواطن) في الثورة الفرنسـية أو (الرفيق) في الثورة الروسية، وتظهر - طبقا لهذا التقويـم- الاختلافات الأولى بين النماذج الديمقراطية المعروفة في التاريخ، حتى في المصطلح السياسي حيث نصبح اليوم نتكلم عن [ ص: 65 ] (الديمقراطية الغربية) بأوروبا و (الديمقراطية الشعبية) في الشرق و (الديمقراطية الجديدة) في الصين [1] .

        فبصورة تزيد أو تنقص وضوحا، نجد أنفسنا أمام نماذج ديمقراطية يختلف بعضها عن بعض، بمقدار تقويمها للإنسان بالقيمة التي تعطى له في صورة شكلية، تعبر بصورة رمزية عن بداية تدشين المشروع الديمقراطي في البلد، ووضعه في الطريق نحو القيم والمثل الديمقراطية" (ص145).

        ومرة أخرى يضع أمامنا بن نبي أسبـاب الخلل لدى النخب الحاكمة أو التي تسعى للحكم، وفي بعض الأحيان النخب المثقفة، في الوطن العربي، حينما يكثرون من الحديث عن الديمقراطية وضرورة بنائها، وهم لم يقدموا صورة جديدة للإنسان العربي، حيث لا يزال الحاكم يعامل شعبه (كرعايا) عليهم أن يحسنوا السمع والطاعة، ويضفي على نفسه صورة (الأبوية) التي تفترض عدم الرشد والصغر والسفه في سلوك الأبناء وأفكارهم، مهما تقدم بهم العمر... بل بعض الحكام العرب يمني (رعاياه) بأنه سيعلن لحظة تدشين (البناء الديمقراطي) متى لمس فيهم نضجا ورشدا!!

        وبعض (النخب) السـاعية للحكم، المتمثـلة في أحزاب المعـارضة، لا زالت ترى الشعب أيضا قاصرا، غـير عارف بمصـلحته، لا تنظر إليه [ ص: 66 ] إلا باعتباره صوتا انتخابيا، فهو واع إن صوت لصالحها، وهو دون المستوى إن اختار غيرها!!

        - والتقويم الجديد الذي يجب أن يؤسس عليه البناء الديمقراطي، له وظيفة أخرى تتمثل في التغلب على المعوقات التي تقف في طريق الديمقراطية، والتي يكون أساسا معوقات نفسية.

        فالفرد الذي لم يشعر بكيانه كإنسان حر، لا يمكنه أن يخرج من دائرة العبودية للآخر، أو إرادة استعباد الآخر، ولا أمل في بناء ديمقراطية مع وجود هذين النافيين لمقوماتها.

        يقول بن نبي: "هذا التقويم الجديد للإنسان، يطبع من البداية فعالية المشروع وأثره في المجال النفسي، بالنسبة إلى الدوافع السلبية التي تقاوم المقومات الديمقراطية في نفس العبد ونفس المستعبد، فهو يكون إذن مقياسا تقاس به الأشياء في هذا السياق، وتميز به النماذج المعروفة في التاريخ، من النموذج الذي حققته أثينة منذ ثلاثة آلاف سنة، إلى النموذج الذي تحققه الصين اليوم" (ص145- 146).

        فالتقويم يعيد للإنسان الإحساس بإنسانيته، ومن ثمة يدفعه إلى الدفاع عن حقه في الحياة كإنسان حر مكرم، وما لم نصل به إلى هذا الشعور، فالظفر بمجتمع ديمقراطي، أمل بعيد المنال.

        وهذا الشعور - كما أسلفنا - يأتي نتيجة حركة واعية من شأنها أن تطور الإنسان، وتعطيه تصورا جديدا ينقله من طور العبد المستكين، إلى طور الإنسان الحر الممتلئ إحساسا بإنسانيته. [ ص: 67 ]

        وليس هذا بالإنجاز السهل، خصوصا في مجتمعاتنا العربية، التي فقد فيها الإنسان قيمته كإنسان طوال الفترة الاستعمارية، وازدادت قيمته انحطاطا مع القمع الذي مارسته عليه الأنظمة العسكرية الملتحفة بالأيديولوجيات الشمولية خلال فترة (الدولة الوطنية).

        فلا غرابة والحال هذه، أن يصبح التزوير مثلا، سلوكا تمارسه السلطة، وهي مطمئنة وواثقة من سلبية موقف الناخب وردة فعله، فهي على قناعة تامة بأن هذا الناخب يرى مسؤوليته تنتهي حينما يلقي بالورقة في الصندوق، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يحدث، لأنه لا يرى لتلك الورقة دلالة أكثر من مجرد المشاركة الشكلية في مهرجان يتنافس فيه الآخرون على أمر لا يعنيه ولا يشغله، لأنه مشغول ومهموم بلقمة العيش والجري وراء الحد الأدنى من متطلبات الحياة!!

        لا غرابة هنا في موقف السلطة ولا في موقف الناخب، وإنما الغرابة في موقف القوى الساعية إلى التغيير - على اختلاف توجهاتها - حينما تقف تشجب هذا السلوك غير الديمقراطي من السلطة وتلوم الناخب على سلوكه السلبي، دون أن تقدم له ما يجعله يخرج من سلبيته، فهي لا تكاد تظهر إلا في المواسم الانتخابية، ولا تكاد تنظر للفرد إلا باعتباره (صوتا) يجب أن يكون لصالحها، أما العمل على توعية هذا الفرد وتعزيز شعوره بالحرية والإنسانية، بحيث يصبح (للورقة) دلالة تتجاوز حدود المشاركة الشكلية في مهرجان يتنافس فيه الآخرون فذلك غائب، حيث لابد من الارتقاء إلى الدلالة على [ ص: 68 ] الحق المشروع والواجب العيني في تحديد مصير المجتمع وتوجهاته، ويدرك عندها هذا الناخب أن التوزيع العادل للثروة يمر عبر (الصندوق)، وأن جريه وراء لقمة العيش يتحدد - يسرا وعسرا - بالورقة التي يلقيها فيه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية