الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        1- إشكالية المصطلح والمضمون:

        المحاضرة كانت تحت عنوان (الديمقراطية في الإسلام)، فأول ما نلاحظه أن بن نبي لم يتناول الموضوع كما اعتاد الناس تناوله، من خلال ثنائية (الديمقراطية/الشورى)... وللفكر العربي - قديما وحديثا - ولع باختراع الثنائيات ثم إدارة الصراع حولها بين قائل (بالاتصال) ومناد (بالانفصال) ومحاول (للتوفيق).

        فمالك بن نبي هنا لم يدخل الموضوع من باب إثارة الإشكال حول المصطلح، وإنما من زاوية وضع المشكلة في السياق الحضاري، فنحن كأمة تعيش مرحلة ما بعد حضارتها، محكوم عليها أن تكون في موضع المغلوب الذي يفرض عليه الغالب قوانينه وعاداته ومقاييسه، يقول: "ورثنا نحن معشر الشعوب الإسلامية، كما ورثت معنا وفي الظروف نفسها الشعوب الإفريقية الآسيوية التي خضعت مثلنا للدول الاستعمارية واحتكت بثقافتها وحضارتها في إطار الاستعمار، ورثنا هذا الاتصال وبحكم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقيس بها الواقع الاجتماعي لدينا، ونقارن على ضوئها ماضينا وحاضرنا، بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الأمم الغريبة" (ص133) [1] . [ ص: 52 ]

        فاللقاء مع الغرب (الآخر/الغالب) ومن موقعنا كمغـلوبين، أنشأ لدينا - كما يرى بن نبي - مركب نقص، جعلنا نضم إلى إسلامنا (خصوصيتنا/أصالتنا/ذاتنا) كل ما نعتقده ذا قيمة في حضارة الغرب، ومن هنا يعطينا بن نبي تفسيرا لتلك الكتابات التي ظهرت في مرحلة الخمسينيات والستينيات وحتى مطلع السبعينيات، والتي تتحدث عن (اشتراكية الإسلام) و (الإسلام والعدالة الاجتماعية) و (الحرية بالمفهوم الليبرالي في الإسلام)... فالمسألة أقرب إلى رد الفعل العـاطفي منها إلى الاختيار العقلاني الذي يختبر ما لديه أو ما يفد عليه من (الآخر).

        ولذلك فهو يرى أن عنوانا كـ (الديمقراطية في الإسلام) يدل على هذه الآلية التي تتحكم في العقل المسلم، الذي يقف في هذه المرحلة من تاريخه، منبهرا بقوة الغرب (المفهومية) بقدر ما هو منبهر بسطوته المادية... فتراه يبحث عن المفاهيم يضيفها إلى تراثه، بالكيفية ذاتها التي يبحث بها عن الوسائل المادية لتحقيق الرفاهية في الواقع.

        وبهذا المنطق تغدو "الديمقراطية من تلك العناصر التي نتقبلها لنضيفها إلى التراث الإسلامي، مقتنعين بما يبرر هذه الإضافة ولو بصورة شكلية، حتى يصبح الموضوع لا يفتح بابه على نقطة استفهام (هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟) بل ندخل فيه مباشرة من باب المسلمات فنقول: (صفوا لنا الديمقراطية الموجودة في الإسلام)" (ص133-134).

        فبن نبي لم يشغـله التضـاد أو التوافق بين الشـورى والديمقراطية، وإنما شغله التعامل مع الصيغة المركبة الناتجة عن إضافة مفهوم (غريب) إلى [ ص: 53 ] الإسلام، باعتبارها مسلمة، تنتفي لدى المتلقي غرابتها، فينتقل إلى مستوى البحث عن توصيفها بعد أن سلم بوجودها.

        وما أكثر ما أدخلنا هذا الربط غير الواعي، بين الإسلام ومفاهيم وافدة، في متاهات لم نتمكن بعدها من الإمساك بالمفهوم الوافد والاستفادة منه، ولا بتطوير فهمنا ونظرتنا إلى الإسلام.

        وقد كان بن نبي واضحا في تحليله لموضوع الديمقراطية في الإسلام، فلم يتعامل مع الصيغة المركبة باعتبارها مسلمة، على الرغم مما فيها من إغراء وبريق قد يحمل المدافع عن الإسلام على تبنيها، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الظروف التي كان يتحدث فيها بن نبي والتي اتسمت أساسا بتشبث المصلحين في العالم الإسلامي بكل ما من شأنه أن يدفع عن الإسلام دينا وحضارة، شبهات التخلف والانغلاق والماضوية، التي كان يروج لها المستشرقون والمفتونون من أبناء المسلمين، ويدعمها - بغير قصد - تزمت بعض علماء الدين وتحجر أفكارهم وبعدهم عن واقع الناس.

        فكان بإمكان بن نبي أن ينطلق من الأمر باعتباره مسلمة، فلا يبحث عن جواب لسؤال: (هل في الإسلام ديمقراطية؟) ؛ لأنه بذلك يضع الإسلام في قفص الاتهام كما يضعه خصومه، وإنما وبدافع من الذود عنه سيبحث عن جواب لسؤال: (هل لكم أن تصفوا لنا الديمقراطية في الإسلام؟)... كان بإمكان بن نبي أن يفعل ذلك.. ولكنه آثر أن يكون (محايدا) وأن يبدأ في تحليل المسألة من حيث يجب البدء، أعني تحديد حقيقة الرابطة بين المفهومين [ ص: 54 ] (الإسلام - الديمقراطية)، وهذا لا يتأتى إلا بتحديد كل مفهوم على حدة، قبل الحديث عنهما بشكل صيغة مركبة.

        يقول: "إن مشـكلة الربط بين هذين المصطلحين هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع، يجب أولا أن نميز بينهما وأن نعطي كليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى نتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين المصطلحين... وعليه في خطوتنا الأولى أن نوضح وأن نعرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام؟ وما هي الديمقراطية؟" (ص134).

        وكأني به بهذا قد انتهج طريق (ابن رشد) حينما بحث قضية الصلة بين الحكمة والشريعة، فحلل مضمون الحكمة وحدد مفهومها، ثم حاكم ذلك إلى ما دعت إليه الشريعة، فتوصل إلى (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال).

        فبدأ بن نبي تحليله للمصطلحين (الديمقراطية - الإسلام) ولكنه في البداية نبه على أمرين أساسين:

        - الأول: أن الوقوف عند المعنى اللغوي للمصطلحين من شأنه أن يدفعنا إلى القول بانتفاء أية صلة زمانية أو مكانية بينهما، فالديمقراطية كمصطلح نشأت في بيئة محددة وزمان محدد لا صلة لهما بالبيئة والزمان اللذين نشأ فيهما مصطلح الإسلام، وعليه "ربما أمكن القول مجازفة، نظرا لهذا التباعد من حيث التاريخ والجغرافية، بأن ليس هناك (ديمقراطية في الإسلام)" (ص 135). [ ص: 55 ]

        - الثاني: أن المصطلح عبر تاريخه يكتسب معاني ويتلبس بتصورات مختلفة، فلا يمكن أن نغفل هذا الأمر عند إرادة المقارنة أو التحليل، بل علينا أن نحدد المعنى الذي نريده، وهذا بالضبط ما حدث لكل من (الديمقراطية) و (الإسلام).

        فما العمـل إذن أمام هذين الأمرين؟... يجيب بن نبي: بأنه علينا القيام بخطوتين:

        1- تجاوز المعنى اللغوي للمصطلح محل الدراسة.

        2- تحديد مفهومه قبل ربطه بأي مفهوم آخر (فالديمقراطية نحددها في ذاتها دون ربطها بالإسلام ولا أن نجعله مقياسا لها).

        وبتطبيق هذين المحددين، يخلص بن نبي إلى أننا حينما نتعامل مع المصطلحين في أبسط صورهما المفهومية نجد أن:

        -الديمقراطية: هي سلطة الشعب أو بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان).

        - الإسـلام: هو الخضوع لله - تعالى - أو بتعبير تحليلي موجز (خضوع الإنسان).

        "فهل يوجد وجه مقارنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه مقارنة بين مفهوم سياسي يفيد مجمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معـين، وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره.

        هـكذا ينتهي الأمر فيمـا يبـدو إلى مناقضة أو ما يشبه المناقضة" (ص 136). [ ص: 56 ]

        فهذا التبسيط للمفهومين والذي يرتكز أساسا على الجوانب اللغوية، يزيد من أثر المقارنة بينهما صعوبة... والصعوبة - كما يقرر بن نبي -"ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه كلا المصطلحين، بل إنها تنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع" (ص136).

        وهذه ملاحظـة في غـاية الأهمية، ذلك أننا حينما نأخذ مصطلحا أو مفهوما ونغفل عن ظروف نشأته الزمانية والمكانية، نكون في الحقيقة قد ابتعدنا عن جوهر ذلك المفهوم، وعرضنا أحد تجلياته في الواقع في لحظة زمانية وحدود مكانية معينة، بمعنى أننا لن نعبر عن المفهوم كما هو في شكله المجرد الذي قد يصلح لكل زمان ولكل بيئة، وإنما سنأخذ أحد نماذجه التطبيقية في زمان وبيئة محددين... وهذا ما حدث -مثلا- للأحزاب اليسارية حينما أخذت التجربة السوفياتية كنموذج أرادت استنساخه، فباءت بالفشل؛ لأنهـا لم تتعامل مع النظرية الاشـتراكية أو الماركسية، وإنما تعاملت مع إحدى تجلياتها وتطبيقاتها في واقع يختلف عن واقع الشعوب العربية، وهو ما يحدث أيضا لدعاة الحداثة في سعيهم في نقل الصورة الحداثية للمجتمع الغربي ومحاولة تطبيقها على المجتمع العربي، فلا غرابة بعد ذلك أن تبوء تلكم التجـارب والمحـاولات بالفشل، لأنها لم تتعامل مع المفاهيم وإنما تعاملت مع (تعبيرات) عن تلك المفاهيم.

        فبن نبي وهو يتحدث عن الديمقراطية في بداية الستينيات، نبه إلى هذا الأمر، وهو أننا لا ينبغي أن نتعامل مع الديمقراطية انطلاقا من المفهوم اللغوي [ ص: 57 ] الذي تطرحه القواميس الغربية، لأن المفهوم في هذا المستوى مشبع بروح التجربة الغربية أو الفرنسية على وجه الخصوص... فنحن حينما نقول الديمقراطية هي حكم الشعب أو سلطة الشعب أو الإنسان فهذا التحديد اللغوي "مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية، حيث يعتبر هذا المصطلح من إنتاجها اللغوي في هذا العصر" ( ص137).

        التالي السابق


        الخدمات العلمية