الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        1- بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي:

        يرى بن نبي، بشكل عام، أن الديمقراطية الغربية بشقيها لم تستطع أن تجمع بين الجانبين الاجتماعي والسياسي في تجربتها، فهي إن أعطت الإنسان حقوقه السياسية لم تضمن له بالقدر ذاته حقوقه الاجتماعية، وإن أعطته حقوقه الاجتماعية أهدرت حقوقه السياسية، يقول بن نبي: "ولكننا عندما نعتبر هذه النماذج - عدا النموذج الإسلامي - نجد أنها تستهدف في أساسها منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتمتع بها (المواطن) في [ ص: 77 ] البلاد الغربية، وإما الضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها (الرفيق) في البلاد الشرقية" (ص146).

        وكأن بن نبي هنا يشير إلى أن الديمقراطية الغربية نظرت إلى الإنسان نظرة مادية، اختزلته مرة في البعد السياسي واختزلته أخرى في البعد الاجتماعي، وهي نظرة ضيقة لا تفي بحاجات الإنسان وتطلعاته ومركزه بين الموجودات.

        أما الإسلام، فهو يغرس في الإنسان قيمة أعلى وأرقى وأوفى بمكانته ورسالته في الوجود، إنها قيمة التكريم الإنساني الذي يناله الإنسان بوصف الإنسانية لا غير، يقول بن نبي: "أما الإسلام فإنه يمنح الإنسان قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي يمنحها الله له في القرآن الكريم في قوله ( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70)، فهذا التكريم يكون أكثر من الحقوق أو الضمانات، الشرط الأساسي للتغيير اللازم في نفس الفرد، طبقا للشعور الديمقراطي سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين، والآية التي تنص على هذا التكريم ، تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديمقراطي يمتاز عن كل النماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبر عنه نصوص قانونية محددة، فنظرة النموذج الإسـلامي للإنسـان، هي نظرة إلى التكريم الذي وضعه الله فيـه، أي نظرة إلى الجـانب اللاهوتي فيه، بينما النماذج الأخرى تمنحه النظرة إلى الجانب الناسوتي والجانب الاجتماعي، فالتقويم الإسلامي يضفي على الإنسان شيئا من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج المدنية" (ص146). [ ص: 78 ]

        وبهذا نرى خطأ الدعوات التي تحاول أن تربط بين الديمقراطية واللائكية (العلمانية) في العالم الإسلامي، فهي -شعرت بذلك أم لم تشعر- تفقد الديمقراطية أهم مقوماتها وهي (قيمة الإنسان)، فالإسلام بتأكيده على البعد العقدي في الإنسان، يضفي عليه (قداسة) تعزز إنسانيته ومركزه بين الموجودات، وهذا يحيلنا أيضا إلى مسألة (حقوق الإنسان) التي يحرص العديد من المنادين بها على تجاهل البعد الديني في هذه الحقوق والإمعان في علمنتها، على اعتبار أنها نشأت في بيئة علمانية كان الدين فيها وسيلة لانتهاك تلكم الحقوق.

        والفرق بين النموذج الغربي الذي وقف عند الجانب (الناسوتي)، وبين النموذج الإسلامي الذي تجاوز ذلك إلى الجانب (اللاهوتي)، ليس فرقا شكليا، وإنما له انعـكاساته على سلوك الفرد تجاه نفسـه وتجاه الآخرين، وما الديمقراطية إلا تصحيح للنظرة نحو (الأنا) ونحو (الآخر)، قبل أن تكون ضمانات سياسية واجتماعية تفرضها نصوص قانونية.

        وعليه، فالفرق "ليس في المفردات ولكن في معناها في واقع الأشياء بالنسبة إلى شعور الإنسان نحو نفسه ونحو الآخرين... فالإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشعر بوزن هذا التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأن الدوافع والنـزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه" (ص146-147).

        ويعطينا مالك بن نبي، كيف أن الإسلام لم يكتف بهذا التوجيه العام الذي يقرر فيه كرامة الإنسان، أيا كان هذا الإنسان، وإنما وضع له حدين [ ص: 79 ] يحفظانه من السقوط في الصفتين المنافيتين للشعور الديمقراطي، أعني صفتي (العبودية) و (الاستعباد).

        فالحاجز الذي يحفظ الإنسان من (الاستعباد)، نجد الإشارة إليه في قوله تعالى: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص:83) .

        والحاجز الذي يحفظه من(العبودية)، نجد الإشارة إليه في قوله تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) (النساء:97-98) .

        "ومجمل القول: إن المسلم محفوظ من النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، الموجودة أو المدسوسة في طينة البشر، بما وضع الله في نفسه من تكريم مقدس، وما جعل عن يمينه وشماله من معالم، ترشد طريقه حتى لا يقع في وحل العبودية ووحل الاستعباد... ومما يدعم شعوره العام الذي منحه كإنسان، فإنه يشعر بتكريم خـاص قد منحه كمؤمن في قوله عز وجل: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) (المنافقون:8)" (ص 147).

        هذا عن الشعور الذي يغرسه الإسلام في كيان الفرد، وهو بمثابة (الشرط الذاتي) للديمقراطية، فماذا عن الشروط الموضوعية، تلك الخارجة عن ذات الفرد، والمتمثلة في الضمانات السياسية والاجتماعية؟ لأننا سبق [ ص: 80 ] وأن رأينا، بأن الديمقراطية - كما يحددها بن نبي - عبارة عن شعور نحو (الأنا)، ونحو (الآخر)، ينتفي به رذيلتا (العبودية) و (الاستعباد)، مضافا إليه - إلى ذلك الشعورـ الضمانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كي تتحول الديمقراطية من دائرة الشعور إلى واقع ملموس.

        فهل يكفل الإسلام تلك الضمانات، كما كفل ذلك الشعور؟

        قبل أن يجيب بن نبي عن هذا السؤال، يقدم للإجابة بملاحظة منهجية، يؤكد من خلالها أن هذه الضمانات (الشروط الموضوعية) لا ينبغي أن نبحث عنها في واقع المسلمين اليوم، وإنما علينا أن نستقيها من مرحلة النبوة، أي مرحلة (التخلق الديمقراطي).

        وهو بهذا ينبه إلى المغالطة التي يستعملها بعض الغربيين وبعض العلمانيين عندنا، حينما يجعلون من الواقع العربي الإسلامي اليوم، بما فيه من بؤس وتخلف وغياب للحريات، أو بالنظر إلى بعض الخطابات الإسلامية المتخلفة عن آفاق النص الشرعي والتطبيق النبوي والراشدي له، دليلا على عدم وجود الديمقراطية في الإسلام كنصوص، والشيء ذاته قد يقال عن الإسلام والعلم والإسلام ومقومات الحضارة... فهم يجعلون من الواقع حكما على النصوص، غافلين أو متغافلين عن الجهد البشري الرابط بين (النص) و (الواقع).

        فبن نبي، يرد عليهم مبينا خطأهم من خلال مثال آخر، إذ هم يتغنون عادة بالنموذج (الأثيني) على اعتبار أنه هو النموذج الديمقراطي الأول، [ ص: 81 ] ولكننا لو طبقنا ما طبقوه هم على الإسلام، وانطلقنا من واقع الشعب اليوناني اليوم، لكنا مضطرين إلى تجاهل ديمقراطية (أثينا).

        يقول: "عندما ندرس ديمقراطية أثينا، على وجه المثال، فإننا لا نبحث عن مبرراتها في واقع الشعب اليوناني اليوم، دون أن يعني هذا أن الجيل اليوناني المعاصر قد فقد القيم التي تميزت بها الديمقراطية في عصر أفلاطون.

        فلا حرج إذن في اعتبار الديمقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية، وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة، ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع.

        فمما يتعارف عليه الناس ويؤكده التاريخ، فإن التقاليد الإسلامية نشأت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين" (ص149-150).

        قد تبدو هذه الفكرة عادية، فهي لا تخرج عن مقولة (العصر الذهبي) الذي ينادي الإسلاميون بالعودة إليه، على اعتبار أنه يمثل عصر (الخيرية المطلق) في مقابل تناقص تلك الخيرية جيلا بعد جيل



        [1] .

        لكن عندما نربط هذه الفكرة بما سبق بيانه، سنجد أن الزاوية التي تناول بها بن نبي الموضوع، تختلف عما ينادي به الإسلاميون عادة. [ ص: 82 ]

        فالإسلاميون ينظرون إلى المرحلة الراشدة باعتبارها أنموذجا مكتملا، وتجربة ناجزة، بينما بن نبي يراها مشروعا قابلا للتطوير، وتجربة مفتوحة، لكل جيل كي يضيف ويطور فيها، وفقا لزمانه ومكانه وظروفه، فهي المرحلة التي وضعت فيها (الأصول)، وهذا يوضح لنا معنى قوله: إن الإسلام (مشروع ديمقراطي تعززه الممارسة).

        فمرحلة النبوة، ثم الخلافة الراشدة، شكلتا المدة التي وضعت فيها الأسس، والأساس غير البناء، وهي التي يسميها (مرحلة التخلق الديمقراطي)، وقد دامت أربعين سنة.

        يقول: "فالمشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام، قد أخذ طريقه للتحقيق نحو الأربعين سنة تقريبا، ففي هذه المرحلة وضعت الأصول النفسية التي تقدم ذكرها، تكملها وتدعمها مقدمات جديدة لتكون الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية" (ص150).

        وبعد هذه الملاحظة، يعطي بن نبي الأسس التي أقرها الإسلام كضمانات لتحقيق الديمقراطية، بدءا بتحرير الإنسان، مركزا على مسألة الرقيق، وكيف تعـامل معها الإسـلام، فنقله من مجرد (شيء انتفاعي) كما كانت تنظر إليه ديمقراطية أثينا، إلى أن يعتبره إنسانا يجب أن يحرر ويعتق، فانضم بذلك "مصير الرقيق إلى مصير الإنسان الحر" و"أضيف الرقيق إلى عالم الآخرين، أي عالم الأشخاص بعد أن كان من عالم الأشياء، وذلك لأول مرة في التاريخ" (ص151). [ ص: 83 ]

        ويعطينا بن نبي أيضا، أسس الضمانات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (ص152-156)، مركزا على مسألة (الحرية) باعتبارها السمة التي تعطي الإنسان كيانه ووجوده الحقيقي الذي يجعل منه أهلا لتحقيق الديمقراطية في الواقع كنشاط سياسي واجتماعي واقتصادي، ليخلص في النهاية إلى أنه "يصح القول بأن الحكم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وعمله... والإسلام يتضمن كل السمات التي تطبع الديمقراطية السياسية، التي تمنح الفرد مسؤولية في تأسيس الحكم والضمانات اللازمة التي تحميه من جور هذا الحكم" (ص156-157).

        وفي السياق ذاته، يقارن بين النموذج الإسلامي والنماذج الغربية، فبين أن النماذج الغربية (ليبرالية أو اشتراكية) ولأنها تعاملت مع الإنسان باعتباره كائنا سياسيا أو كائنا اجتمـاعيا، قـد ضحت - كما أشرنا من قبل - إما بالحقوق الاجتماعية لحساب الحقوق السياسية، أو بالجوانب السياسية لحساب الخدمات الاجتماعية... بل إنه، بقدر ما نال الإنسان الغربي على الخصوص حريته السياسية، بقدر ما فقد الضمانات الاجتماعية التي تكفل له الحياة الكريمة، ومن ثم تحافظ له على هذه الحرية، يقول بن نبي: "لكن التجربة التي تجري للديمقراطية السياسية في العالم منذ الثورة الفرنسية، تدل على ضعف حريات الفرد في الواقع، عندما لا تحميه في الوقت نفسه الضمانات الاجتماعية التي تكفل حريته المادية" (ص187). [ ص: 84 ]

        قد يبدو في هذا الكلام مبالغة، خصوصا عند أولئك المفتونين بالنماذج الغربية، وبالأخص في المرحلة التي كان يتحدث فيها بن نبي (مرحلة الستينيات من القرن الماضي)، مرحلة الهوس الأيديولوجي والافتتان بالديمقراطيات الغربية عند حركات اليمين أو حركات اليسار في الوطن العربي، لكن مالك بن نبي، وانطلاقا من معايشته للتجربة الغربية، يضع أمامنا الصورة الحقيقية لتلك التجارب، ويكشف عن الجانب البشع منها، فيقول: "ولقد رأينا في البلاد المتطورة، كيف يصبح (المواطن الحر) عبدا مجهولا لمصالح كثيرة تتحد ضده، وكم تضيع عليه بهذا السبب المنافع المنتظرة التي يمنحها إياه، بصورة نظرية، تصـريح حقوق الإنسـان، ودستور لا يكون لهما أثر ظاهر في حياته.

        كما رأينا كيف أن البلاد التي يحدث فيها الاختلاف بين القيم السياسية، والقيم الاجتماعية، تعاني صراع الطبقات الذي ينتهي ربما إلى تأسيس نوع من الديمقراطية، يعطي (المواطن) الضمانات الاجتماعية اللازمة، ولكن على حساب حرياته السياسية" (ص157).

        هذا تنبيه يضعه بن نبي أمام النخب التي انبهرت بالنماذج الغربية، وغفلت عن التجربة التي يمكن للإسلام أن يمدها بها، هذا الإسلام الذي "تلافى هذا المعوق، لأنه أتى لمشكلات الحياة المادية المتصلة بالنظام الاقتصادي بالحلول المناسبة دون أن يمس الفرد في حرياته الذاتية... وعليه فالإسلام يبدو وكأنه جمع موفق بين مزايا الديمقراطية السياسية والاجتماعية" (ص157). [ ص: 85 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية