الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        4- الديمقراطية بين المضمون والآليات:

        نقطة أخرى لا تقل أهمية على مكانة الإنسان، ينبه إليها بن نبي في تحليله، وهي علاقة الآليات بالمضمون في مسألة البناء الديمقراطي.

        فهو بقدر ما نبه على ضرورة النظر إلى الديمقراطية من خلال تحليلها إلى الأسس الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، نبه أيضا إلى أن التمسك بالآليات دون ترسيخ المفهوم أولا في النفس، لا يعدو أن يكون استنساخا شكليا لنماذج لا نملك مقومات وجودها في واقعنا الاجتماعي.

        وهذه الملاحظة، كثيرا ما يؤكد عليها بن نبي في كتاباته، حيث رأى أن المجتمعات العربية أخطأت الطريق إلى النهضة والحضارة، حينما حاولت محاكاة الغرب في حضارته بدافع التقدم، فانكبت على أشياء الحضارة تقتنيها، فكانت النتيجة أن (تكدست) هذه المنتجات الحضارية لديها، دون أن تخطو بها نحو التقدم الحقيقي خطوة.

        والشـيء ذاته حدث في بعض - إن لم نقل أغلب- تجارب البناء الديمقـراطي في المجتمعـات المتخلفة عمـوما - ومنها المجتمع العربي - حيث انصرفت جهود نخبه إلى اقتناء آليات الديمقراطية دون وعي بالعلاقة [ ص: 69 ] العضوية بين ترسيخ المفهوم في كيان الفرد وبين الآلية التي تأتي بعد ذلك لتعزيزه وتحقيقه.

        ويعطينا بن نبي مثالا على ذلك بمسألة (الدستور)، فالبعض يفهم الديمقراطية فهما سطحيا، ويحولها إلى "مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور" (ص 143).

        فهذا النص الدستوري الذي يسلم السلطة إلى الشعب، ويعلن ديمقراطية الحكم، لا يساوي في واقع الأمر قيمة المداد الذي كتب به، لأنه لا يمثل حقيقة في واقع الناس... وقد نجد مجتمعا بلا دستور ينص على هذا المسألة، ولكن حياته تسير وفقا للقواعد الديمقراطية التي تشربها كل فرد فيه، فهو يعايشها سلوكا يوميا.

        ويمثل ببن نبي لذلك بالمجتمع الإنجليزي فيقول: "فإنجلترا تتمتع بحياة ديمقراطية ممتازة، دون أن يكون في أساسها نص دستوري خاص يحمي الحقوق والحريات التي يتمتع بها فعلا الشعب الإنجليزي، وإنمـا تحميها تقاليد الشعب ذاته وعـاداته وأوضاعه النفسية وعرفه الاجتماعي، أي في نـهاية التحـليل يحميها ما يمكن أن نسميه الروح الإنجليزي بالذات" (ص143 - 144).

        وللنموذج الإنجليزي دلالته المهمة، إذ يبين أن الديمقراطية ليست في أساسها "عملية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب [ ص: 70 ] مثلا، بل هي تكوين شعور وانفعالات مقاييس ذاتية واجتماعية، تشكل بمجموعها المقاييس والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور" (ص 144).

        وهذه المقاييس والأسس لا تنشـأ في مجتمع ما - كما يقرر بن نبي - إلا إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها "مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى أنها منهج شامل، يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي" (ص143).

        أما (الدستور)، فهو - على أهميته- يأتي تاليا لهذه الخطوة الأولى (خطوة التثقيف الاجتماعي الشامل)، بل ما الدستور "غالبا إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعا سياسيا، يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد، ويمليه شعور في ظروف معينة، ولا يكون أي معنى لهذا النص إن لم تسبقه التقاليد والعادات التي أوحت به، أو بعبارة أخرى المبررات التاريخية التي دلت على ضرورته" (ص144).

        وإنه لمظهر يثير السخرية، بل والشفقة أحيانا، حينما نرى حرص المجتمعات المتخلفة على التمسك بالشكليات، وديمقراطيات الواجهة، فتكثر الحديث عن الديمقراطية، والدستور والحرية والمجتمع المـدني والانتخابات... ثم لا ترى مانعا من أن يخلف الحاكم نفسه، أو أن يديم سلطانه فيه وفي بنيه (عن طريق اختراع الجمهوريات لملكية، وهو اختراع عربي بحت)، وأن [ ص: 71 ] يكون الاحتكار هو القاعدة التي تحكم المجتمع وعلى أساسها (توزع) الثروة وحرية الرأي والممارسة السياسية!!

        يقول بن نبي -موضحا جانبا من هذا البؤس -: "ومن هنا تبدو بكل وضوح تفاهة الاستعارات الدستورية التي تستعيرها اليوم بعض الدول الإفريقية والآسيوية الناشئة [1] ، التي تريد إنشاء الوضع الجديد في بلادها، بالقياس على المنوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، إن هذه الاستعارة تكون تارة لازمة، ولكنها لن تكون بكل تأكيد وحدها كافية، إن لم تصحبها الإجراءات المناسبة لبث ما يستعار في نفسية الشعب الذي يستعيره" (ص144).

        فبن نبي بهذا يرشدنا إلى معرفة السر وراء التناقض في حياتنا العربية، حيث نجد حكامنا أكثر حكام الدنيا حديثا عن الديمقراطية وضرورة احترام الدستور ومؤسسات الدولة، وفي الوقت ذاته نجدهم أكثر حكام الدنيا انتهاكا لهذه الدساتير وقفزا فوق هذه المؤسسات.

        بل يفسر لنا السلوك الغريب الذي ينتهجه حكامنا، حينما يأتي كل حاكم (بدستور)، يفصله على مقاسه، فإذا مات أوخلع، جاء خليفته، فيكون أول هم له أن يأتي بدستور على مقاس العهد الجديد ... والشعب الذي ينص الدستور على أن السلطة له، يقف في كل هذا موقف المتفرج الذي لا يعنيه من الأمر شيء!! [ ص: 72 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية