الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        - مقومات تصور بن نبي:

        سنحاول أن نبين من خلال هذه الوقفة ركائز المشروع الذي تصوره مالك بن نبي للخروج من الأزمة، وناضل من أجل إيصاله إلى أذهان النخبة المثقفة من أبناء المسلمين عسى أن ينهضوا بأمتهم من كبوتها.

        ونحن إذ نستعمل كلمة (ناضل) إنما لنقترب أكثر في تحـديد العـلاقة بين بن نبي وأفكاره التي آمن بها وطرحها بين الناس، ذلك أنه، لم يكن باحثا أكاديميا بالمعنى الذي يحصره بين صفحات الكتب ورفوف المكتبات، بل كان إلى الجندي أقرب في إيمانه بالفكرة والدفاع عنها، وإن استفاد من الأكاديمي صرامة المنهج ودقة المصطلح وعمق التحليل... فهو في اعتقادي الرجل الذي استطاع أن يوازن بشكل كبير بين عاطفته وعقله، بين إيمانه بالفكرة وعلمية عرضها.

        وهـذه الصفة لاحظهـا الدكتـور عبد العزيز الخالدي حينما كتب في مقدمة كتاب (شروط النهضة): "وبن نبي في الواقـع ليس كاتبا محترفا أو عاملا في مكتب، مكبا على أشياء خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شعر في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والاجتماعية، وتلك هي المأسـاة التي شعر بـها بن نبي بكل ما فيها من شـدة وبكل ما صادف من تجاربه الشخصية النادرة من قساوة"

        [1] . [ ص: 39 ]

        والحق إن هذه مسألة يلامسها كل من قرأ كتابات بن نبي عموما، وكتاب (مذكرات شاهد للقرن) على وجه الخصوص... وكأني بمالك بن نبي كان يصف نفسه حين قال: "الأفكار ليست منفصلة عن عالم الأشخاص على طريقة مثل أفلاطون، بل إن ملحمتـها تجري كلها على الأرض حتى لا يمكننا مهما تحرينا من التجريد أن نفصل مغامرة فكرة عن مغامرة صاحبها فصلا تاما" [2] .

        فالفصل بين الرجل والفكرة، قد يكون ممكنا لو أننا نتحدث عن كاتب يقبع خلف مكتبه في غرفته المكيفة، ويتعامل مع المشكلة التي بين يديه، تعامل الجراح الذي يشرح جسدا ميتا ليكتشف مكوناته أو العلل التي أودت بصاحبه، فهو يعيش خارج المشـكلة ،أما وأن الحديث عن الأستاذ بن نبي، فالشأن مختلف، لأن الرجل كان يشرح جسدا هو أحد خلاياه، يحس بوخزات الألم التي تجتاحه، وضربات المشرط التي تعمل فيه... فهو لم يكن هدفه الاكتشاف المعرفي البارد، وإنما الصراع ضد مرض قاتل ... أي أنه كان طرفا في الصراع، ولم يكن يتابع من خارج المسرح، يراقب تبادل الأدوار ثم يسجل الملاحظات.

        ويمكن أن نتبين الإطار العام لمشروع بن نبي، من خلال تسجيل الملاحظات التالية، والتي لا أعتقد أن الدارس لفكر الرجل قد يخطئها: [ ص: 40 ]

        أولا: أن الأستاذ بن نبي كان من جيل المصلحين الذين اكتشفوا (الذات) من خلال (الآخر)، وهي ميزة معظم مصلحي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ لا نكاد نصادف مصلحا من المصلحين الذين تبنوا الدعوة إلى النهوض الحضاري ومسايرة الغرب فيما وصل إليه، إلا ونجده قد اكتشف ذاته من خلال الغرب، إما بالتأثر المباشر عن طريق البعثات وإما عن طريق المقارنة بين أحوال الشرق الإسلامي المتخلف والغرب المتحضر، ولك أن تتصفح -مثلا- كتابا مثل كتاب (زعماء الإصلاح لأحمد أمين) لتجد أن معظم هؤلاء الزعماء قد اكتشفوا ذواتهم من خلال الحضارة الغربية.

        وحدثنا بن نبي عن هذه المسألة في مذكراته فقال: "من جهة عامة كان أساتذتنا الفرنسيون يصبون في نفوسنا محتوى ديكارتيا يبدد الضباب الذي نمت فيه العقلية الميثولوجية التي تتعاطف مع الخرافات النامية في الجزائر... ومن جهتي أنا، فقد كان الأستاذ (بوبريتي bobreiter) قد فتح لي آفاقا جديدة لم يكن ذلك بفضل دروسه المقررة علينا كتاريخ الأزمنة القديمة والأدب الفرنسي - وإن تكن هذه قد تركت أثرا لا ينكر - إنما بفضل توجيهاته فيما نقرأ" [3] .

        وبين في موضع آخر، أن اكتشافه لابن خلدون كان من خلال المقدمة في ترجمتها الفرنسية [4] . [ ص: 41 ]

        وهذه الظاهرة - اكتشاف الذات من خلال الآخر - قل من نجا منها؛ لأن (الآخر) لم يكن في الكثير من المناسبات بريئا وعلميا وعقلانيا وأمينا في تصوير الشرق، بعيدا عن ضغوطات الدوائر الاستعمارية، ونزعة المركزية الأوروبية، وعقدة تفوق الرجل الغربي سليل العقلانية اليونانية والمعجزة الإغريقية على حد تعبير (أرنست رنان)... أقول قل من نجا من هذه الظاهرة؛ لأن كثيرا من المصلحين انبهروا بما اكتشفوه، فتقبلوا -دون مناقشة- كثيرا من المغالطات، فندت منهم صيحات تدعو إلى القطيعة مع كل شرقي والاتصال بكل ما هو غربي، وغدا التقدم عند واحد مثل (طه حسين) مشروطا باقتفاء أثر الغرب، لا في التفكير والعمل فحسب، بل حتى في طريقة الكلام والأكل والحياة، وغدت الشمس، عنـد واحد مثل (زكي نجيب محمود) -في بدايات حياته الفكرية - تشرق من الغرب [5] !! [ ص: 42 ]

        ولكن الأستاذ مالك بن نبي، على الرغم من ثقافته الفرنسية، استطاع أن يفلت من هذه الشبكة، وأن يتعامل بوعي مع ما يأخذ ويكتشف، بل تمكن من توظيفه في السعي لرسم معالم الخروج من الأزمة التي تعاني منها الأمة [6] ، وقد يكون هذا عائدا إلى جملة أسباب منها:

        1- تأثره بالتيار الإصلاحي: فقد كان لرجال الإصلاح الإسلامي في تلك الفترة أثر على الشاب الذي بدأت عيناه تتفتح على الفكر الغربي، فيسجل في مذكراته، بعد أن تحدث عن تأثره بالثقافة الفرنسية: "وكان لهذا الاتجاه أن يأخذ بي أبعد من ذلك - أي من مجرد الاكتشاف - لولا دروس الشيخ مولود بن موهوب في التوحيد وسيرة النبي، وتلك التي للشيخ ابن العابد في الفقه، فقد كانت هذه مذكرا قويا يعود بروحي إلى الطريق الصحيح، ومن جهة أخـرى كـان الشيخ عبد المجيد يحلل في دروسه بعض نظراته في انحراف المجتمع وتجاوزات الإدارة، وقد أذكى ذلك في نفوسنا تأييدا وحماسة... وكان آخر هذه المؤثرات كتابان عثرت عليهما في مكتبة النجاح، أعدهما الينابيع البعيدة والمحددة لاتجاهي الفكري، أعني بذلك كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، و (رسالة [ ص: 43 ] التوحيد) للشيخ محمد عبده، وقد تولى الشيخ مصطفى عبد الرازق ومستشرق فرنسي ترجمته للفرنسية" [7] .

        2- تكوينه العلمي التقني، أكسبه القدرة على التحليل والمناقشة، وإرغام الفكرة، قبل قبولها، على أن تدلل على نفسها.

        3- أنه من الناحية الزمنية جاء متأخرا نسبيا عن جيل المكتشفين الأوائل، فمكنه ذلك من استثمار تجربتهم في التعامل مع ما يكتشف.

        4- أنه - كما أشرنا من قبل- لم يكن منعزلا عن مسرح الصراع الفكري، بل تحسس خيوطه، وربط كثيرا من النتائج التي يعـايشها من خلال مأسـاة بلاده، بمقدماتها التي صـادفها في ثقافة الغازي... فما كان له أن ينخدع بالدعـاوى العريضة التي تتشـدق بها الثقافة الفرنسية، وهو يرى الضريبة التي يدفعها شعبـه على يد حامليها، فأعتقد أنه حينما يقف أمام مبادئ الثـورة الفرنسيـة لن يكون لها في عقله ونفسه نفس الوقع الذي يحـدث في عقـل ونفس واحـد مثل طـه حسـين، فالأول يرى في العدالة والمساواة والأخوة شعارات فارغة المحتوى، أو على الأقل لا يؤمن بها أصحابها إلا في مجتمع فرنسي وبين أفراد فرنسيين، ويرى - أو رأى - فيها الثاني مثلا عليا، ذات صبغة كـونية أو إنسـانية، يجب أن تقتفى وتنشر بين الشرقيين. [ ص: 44 ]

        ثانيا: أن دعوة بن نبي يمكن تلخيصها في محاولة التواصل مع ابن خلدون، وذلك من خلال التركيز على مفهوم الحضارة، باعتبارها قمة النشـاط الإنساني، وأنهـا حصيلة تفاعل جمـلة من الأسباب والعوامل و"أن مشكلة كل شعـب هي في جـوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهـم أو يحـل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها". [8]

        لكن يبدو أن (سوء الحظ) الذي أصاب ابن خلدون، فجعله طفرة يعجز معاصروه عن التفاعل مع أفكاره، فلم يستطيعوا مواصلة إبداعه فغدت (مقدمته) - كما قال أحمد أمين - بلا نتيجة!!

        أقول يبدو أن (سوء الحظ) هذا لاحق أيضا بن نبي، فوجدناه يتجاهل في بلده، على الرغم من أننا نعيش حالة قحط شديدة وفقر فاضح لأمثاله من المفكرين الجادين!!!

        وإذا كان الأستاذ قد اشترك مع ابن خلدون في محنة تجاهل المعاصرين له، فهل سيصيبه (حسن الحظ) الذي أصاب ابن خلدون، حينما اكتشفته الأجيال اللاحقة، فاحتفت به احتفاء بوأه المكانة التي يستحق؟ [9] . [ ص: 45 ]

        ثالثا: أن تشخيص الأستاذ بن نبي لأزمة العالم الإسلامي كان عميقا، وهذا العمق هو الذي جعله يحتاج إلى جهد تنظيري ضخم، يحاول من خلاله أن يستوعب جميع جزئياته، ويعطي صورته الحقيقية كما تصورها الأستاذ.

        ولذلك وجدنا إنتاجه الفكري قد انصب حول هذا الهدف، فبعد أن حدد أصل المشكلة، والمتمثلة في السقوط الحضاري [10] ، سلك لإثبات صحة تشخيصه مسالك شتى.

        فإذا كانت مشكلة المجتمع الإسلامي، هي مشكلة حضارته التي سقطت بعد ارتفاع، وأفلت بعد شروق دام قرونا عديدة، فهي المشكلة في إطارها الكلي أو المركب، وحتى يتم استيعابها ثم تصور الحل لها، لا بد من تناولها عبر جزئياتها، أو في إطارها التحليلي.

        وهي الخطوات التي قام بها الأستاذ، فلم يكتف بالتوصل إلى تحديد أزمة المجتمع الإسلامي بأنها أزمة حضارة، وإنما صاغها في شكل عبارة جبرية قابلة للتحليل، وهي معادلته الشهيرة:

        [الحضارة = إنسان+تراب+ وقت]

        ثم أخذ يحلل كل جزء من أجزاء هذه المعادلة، ولو تأملنا عناوين كتبه لتبينا المحاور التي دارت حولها أفكاره وأطروحاته، من (شروط النهضة) إلى (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، مرورا بـ (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) و (مشكلة الثقافة) و (ميلاد مجتمع) و (وجهة العالم الإسلامي) و (المسلم في عالم الاقتصاد)... وغيرها من المقالات التي جمعت في كتب أخرى. [ ص: 46 ]

        فهو من خلال إنتاجه الفكري الثري، كما وكيفا [11] ، نراه قد تناول مشكلة الحضارة من زواياها المختلفة، وذلك بتحليل جزئياتها.

        فقام بعمل تنازلي تحليلي، انطلق فيه من مفهوم (الحضارة) باعتبارها مركبا، أو حصيلة تفاعل الإنسان والوقت والتراب، ثم أخذ يحلل (الإنسان) مركزا فيه على الجانب الذي يؤهله للتفاعل مع الطرفين الآخرين (الوقت والتراب)، وهو (الفكر)، ولذلك احتلت المشكلة الفكرية حيزا مهما من مشروع بن نبي.

        ثم تناول جانب (الوقت)، على أساس أنه هو الحيز أو الوعاء الذي يتحرك فيه الإنسان ليتعامل مع التراب... أما (التراب) - والأرجح أنه يعني به الكون أو الطبيعة، لا مجرد الجانب المادي - فهو المجال الذي يتحرك فيه الإنسان عبر الزمن من خلال الفكرة لينتج حضارة.

        ولم يكتف - أيضا- في النظر إلى مشكلة الحضارة من هذه الزاوية التحليلية فحسب، بل تناولها منطلقا فيها من (الإنسان)، تارة مستصحبا في ذلك نظريات علماء النفس، كما فعل في كتاب (مشكلة الثقافة)، وتارة آخذا بما توصل إليه علماء الاجتماع كما فعل في كتاب (ميلاد مجتمع).

        وكأني بالأستاذ أدرك ضخامة المشكلة، وصعوبة طرحها في شكلها الكلي المركب، خصوصـا وقد أصبح العقل الإسـلامي في مرحلة (مسلم ما بعد عصر الموحدين) [12] ، عقل إنسان يعيش بعد سقوط حضارته، وإنسان [ ص: 47 ] هذا شأنه لا بد وأن يفقد القدرة على التركيب أو التفاعل مع المركبات دون تفصيل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن النخبة التي كان يتوجه إليها بن نبي بالخطاب قد توزعتها مشارب شتى ومذاهب فلسفية وفكرية مختلفة، فوقف يحدث كل جماعة بلسانها، ولعل هذا السبب الأخير هو الذي جعله يبدو متسامحا مع النظريات والمذاهب الفكرية والفلسفية الأخرى، فتراه ينقدها نقد الذي يقر بحقها ويرفض خطأها أو ما يراه أنه خطأ.

        وكان تحليله لمشكلة الحضارة ضمن توجيه المسلمين إلى:

        1- العناية بالفكرة باعتبارها هي المحرك للإنسان.

        2- العناية بالجانب الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية.

        3- العناية بالجانب السياسي.

        4- العناية بالجانب الاقتصادي.

        تلكم هي المقاربة التي حاولنا من خلالها رسم المعـالم العامـة لمشرع بن نبي، وإجابته عن سؤال النهضة... وفي الورقات الموالية سننتقل بالقارئ الكريم للبحث عن الإجابة عن هذا السؤال أيضا، ولكن من زوايا مختلفة باختلاف المداخل التي اعتمدها بن بني في تحليله لمشكلة الحضارة، فنقف مع زاوية فكرية وأخرى سياسية وأخرى استشرافية... والغاية البعيدة من كل هذا هو التعريف بالجهد الذي بذله الرجل في بيان فكرته وتصوره للأزمة والمخرج منها. [ ص: 48 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية