الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        5- الإسلام والديمقراطية:

        بعد أن يصل بن نبي إلى هذه النقطة من التحديد لمفهوم الديمقراطية، يعود ثانية للإجابة عن الإشكال الذي بنى عليه محاضرته، وهو: (هل في الإسلام ديمقراطية؟)، وهذا السؤال يستبطن سؤالا عن حقيقة العلاقة بين المفهومين، هل هي علاقة تناف، بحيث وجـود أحدهما ينفي الآخر قطعا؟ أم هي علاقة تضمن، بحيث يكون أحدهما جزءا من الآخر؟ أم هما مفهومان مستقلان، لهما نقاط تقاطع واشتراك ونقاط تباين واختلاف؟

        إن الإجابة عن هذه الأسئلة، تبدأ من ملاحظة العنوان الذي وضعه بن نبي لمحاضرته، وهو (الديمقراطية في الإسلام).

        والعنوان، كما يقول (ليو .هـ . هوك) - وهو من مؤسسي علم العنوان الحديث - : "مجموعة من العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرج على رأس نص لتحدده، وتدل على محتواه العام، وتغري الجمهور بقراءته" [1] ... فمن هنا يكون تأمل العنوان مسـاعدا على معرفـة تصور الكاتب للموضوع محل النقاش.

        ومالك بن نبي هنا، بوضعه عنوان المحاضرة (الديمقراطية في الإسلام)، يكشف عن جانب من تصوره للمفهومين، فيمكن أن نلاحظ ما يلي: [ ص: 73 ]

        - أنه لا ينفي وجود الديمقراطية في الإسلام، فهو لم يختم العنوان/النص، لا بعلامة تعجب(!)، ولا بعلامة استفهام (؟).

        - أنه لا يضع الديمقراطية كمرادف للإسلام، ومن ثمة لا مجال للتنافي بينهما، أي لا يمكن أن تكون الديمقراطية بديلا عن الإسلام.

        - أنه يفتح مجالا أمام القارئ للإبقاء على احتمال التضمن أو التقاطع، وذلك من خلال استعمال (في) بدلا من (الواو).

        وهذه الملاحظات يعززها ما يأتي من تحليل:

        - يبدأ بن نبي - كالعادة - بملاحظة منهجية دقيقة، تتعلق بتصورنا للإجابة عن السؤال المحوري في الموضوع: (هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟)، فبين أن الإجابة لا يمكن تلمسها في (نص فقهي) - كما يحاول البعض فعله، سواء أولئك الذين يريدون نفي وجود الديمقراطية في الإسلام، أم أولئك الذين يريدون إثبات وجودها فيه -، ولكن يجب أن تتلمس الإجابة في (جوهر الإسلام)، مثلما لم نقف في تحديد الديمقراطية عند المفاهيم التي تفيدنا بها القواميس الغربية المتشربة لروح العصر الذي وجدت فيه.

        بعبـارة أخرى، فإن جـوهر الديمقراطية، وجوده أو عدم وجـوده، إنما يكون بالبحث عن ذلك في جـوهر الإسـلام؛ لأن النصوص الفقهية - وإن كانت مستنبطة من الكتاب والسنة أصلي الإسلام - فهي مشبعة بروح العصر الذي استنبطت فيه.

        يقول بن نبي - مؤكدا هذه الملاحظة-: "إن الجواب على السؤال المعروض في هذا البحث (هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟)، لا يتعلق [ ص: 74 ] ضرورة بنص فقهي مستنبط من السنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام بصفة عامـة وعلى وجـه الخصـوص، ومن الوجهة التي تهمنا هنا، فإنه لا يسوغ لنا أن نعتبر الإسلام كدستور يعلن سيادة شعب معين، يصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن نعتبره في سياق حديثنا كمشروع ديمقراطي تفرزه الممارسة، ونرى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه، وهو في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية" (ص144- 145).

        وهذا التعريف قد يبدو غريبا عما اعتدنا أن نعرف الإسلام به، ولكنه تعريف إجرائي اقتضاه سياق النقاش والتحديد السابق لمفهوم الديمقراطية.

        فكما لا يجب الوقوف عند المفهوم الذي يختزل الديمقراطية في مفهوم سياسي، يفيد مجمله تقرير (سلطة الإنسان)، ولكي يكون الحوار منتجا، يجب أن لا نختزل مفهوم الإسلام في مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان)... فهذان المفهومان المختزلان يكرسان جانب التنافي بين الديمقراطية والإسلام، فكان على بن نبي أن يصوغ تعريفا يتفق مع نظرته تلك.

        فهل كان بصنيعه ذاك متجنيا على المفهوم الصحيح للإسلام، حيث أراد تطويعه للتوافق مع الديمقراطية؟ أم لهذا التعريف ما يبرره؟

        في الحقيقة أننا حينما نتابع بن نبي في تحليله، نجد أنه يحاول التأكيد على أن مقياس الديمقراطية - بغض النظر عن تمثلاتها ونماذجها في الواقع - هو [ ص: 75 ] تحرير الإنسان من شعوري العبودية (نحو ذاته) والاستعباد (نحو الآخر)، ثم توفير الضمانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تدعم هذا التحرر وتعززه في كيان الفرد.

        وعليه فإذا قلنا: (هل في الإسلام ديمقراطية؟)، فالإجابة تكون بالبحث عن موقف الإسلام من الإنسان ومدى توفيره للضمانات المعززة للحرية الإنسانية، وهذا ما بينه بن نبي.

        فهو ينبهنا في البداية إلى النظر إلى الإسلام (كمشروع ديمقراطي) تعززه الممارسة، أساسه الإنسان الساعي للتحقق بالمثل والقيم الديمقراطية، والتي هي الشعور نحو (الأنا) ونحو (الآخر)، بالحرية والتحرر، "بحيث ترتبط حركته التاريخية بالمبادئ العامة، التي أقرها الإسلام في صورة بذور غرست في الوعي الإسلامي، وفي صورة شعور عام ودوافع تكون المعادلة الإسلامية في كل فرد من المجتمـع" (ص145).

        فالإسلام - كما يبين بن نبي هنا - يغرس في كيان الفرد مقومات الديمقراطية على شكل (بذور)، ويترك للإنسان بعد ذلك تنميتها، حتى تستوي على سوقها أشجارا مثمرة وارفة الظلال، وهذا ما يفسر لنا مقولة: إن الإسلام (مشروع ديمقراطي تعززه الممارسة)، أي أن الإسلام يضع الأصول ويترك للإنسان (الفرد/المجتمع) تطوير حياته وصياغتها وفقا لظروفه واحتياجاته، بما يجعله محققا للمصلحة وملتزما بالأصالة في الوقت ذاته.

        إن هذه الفكرة تبين لنا خطأ أولئك الذين يريدون البحث عن الديمقراطية - نفيا أو إثباتا - في النصوص الفقهية، دون البحث عنها في [ ص: 76 ] جوهر الإسلام، كما توضح السبيل أمام الذين يريدون ديمقراطية لا تصطدم بعقائد الإسلام ولا تتناقض مع خصوصياتنا.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية