الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الورقة الأولى

        مالك بن نبي

        محاولة الإجابة عن سؤال النهضة

        - مدخل:

        منذ آذنت شمس الحضارة الإسلامية بالأفول، ودخل العالم الإسلامي عصر الظلام والصمت، عصر السبات المطبق، تعالت أصوات المجددين وزعماء الإصلاح في أنحاء الجسد الممتد من طانجة إلى جاكرتا، كل يقرع ناقوس الخطر، وينادي في النائمين أن هبوا فإن النوم إذا جاوز حده استحال موتا،والغفلة إذا طالت ألقت بصاحبها على هامش التاريخ.

        واتفق هؤلاء المصلحون على أن هذه المرحلة تشكل أخطر مرحلة من مراحل تاريخ المسلمين؛ لأنهم أصبحوا مهددين في وجودهم كأمة، بعد أن خرجوا من حلبة التاريخ ليقبعوا في زواياه المظلمة.

        ولكنهم بعد ذلك اختلفوا حول تصور العلاج والمخرج من هذا المأزق التاريخي الخطير ... فمنهم من فكر في الإصلاح السياسي (الأفغاني والكواكبي)، ومنهم من فضل الإصلاح العقدي (محمد بن عبد الوهاب ومحمد عبده) ومنهم من رأى الإصلاح الثقافي والتعليمي (أحمد خان في [ ص: 35 ] الهند)، ومنهم من فكر في الإصلاح الجذري للمجتمع، إما بالعودة إلى المرجعية الإسلامية (البنا والمودودي) أو باعتماد المرجعية الغربية (طه حسين وسلامة موسى) .

        ولكنهم على اختلاف مرجعياتهم حاولوا الإجابة عن سؤالين جوهريين:

        1- ما الذي أوصلنا إلى هذا المأزق التاريخي الحرج؟

        2 -ما المخرج من هذه الأزمة؟

        والجزائر لم تكن غائبة عن الحدث، بل حاولت أن تعطي للعالم الإسلامي إجابة عن هذين السؤالين:

        - مرة عن طريق المصلح المجدد الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889-1940م).

        - ومرة عن طريق مهندس الحضارة الأستاذ مالك بن نبي (1905-1973م).

        وهما إجابتان -وإن اختلفتا من حيث عمق التحليل وتصور العلاج- اشتركتا في سمتين أساسيتين:

        الأولى: أن ابن باديس وبن نبي انطلقا في الإجابة عن سؤالي النهضة من عمق المأسـاة الجزائرية، إذ كانت الجزائر في تلك الفترة الاستعمـارية - وهي تعاني من محاولة الإزالة من الوجود- تجسد بشكل كبير مأساة الأمة الإسلامية وهي تعاني الخطر ذاته. [ ص: 36 ]

        الثانية: أن تصور العلاج لم يكن تصورا إقليميا وإن انطلق من خصوصيات الجزائر.

        وإننا لو تصفحنا تفسير ابن باديس، رحمه الله، لوجدنا اهتماما واضحا بأمر المسلمين، في كل مكان، حتى لنكاد ننسى أن الرجل كان يكتب إبان المرحلة الاستعمارية، ويكفي أن ننقل هنا مثالين:

        1- يقول في خاتمة تفسير الآية (58) من سورة الإسراء [1] تحت عنوان "رجاء وتفاؤل": "إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية، يعلم أنها قد شعرت بالداء وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وأن ذلك وإن كان يبدو اليوم قليلا، ولكنه بما يحوطه من عناية الله وما يبذل فيه من جهود المصلحين، سيكون بإذن الله كثيرا، وعسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين" [2] .

        2- يقـول في تفسيره للآيتين (62) و (63) من سورة النور [3] ، وتحت عنـوان "موعـظة"، محـللا أسباب الأزمة، ذاكرا لطرق العلاج: [ ص: 37 ] "ما أصيب المسـلمون في أعظـم ما أصيبـوا به، إلا بإهمالهم لأمر الاجتماع ونظـامه، إما باستبـداد أئمتهم وقادتـهم، وإما بانتشار جمـاعتهم بضعف روح الدين فيهم وجهلهم بما يفرضـه عليهم، وما ذاك إلا من سكوت علمـائهم وقعودهم عن القيام بواجبهم في مقاومة المستبدين وتعليم الجاهلين وبث روح الإسلام الإنساني السـامي في المسلمين، فعلى أهل العلم - وهم المسئولون عن المسـلمين بما لهم من ميراث النبوة فيهم - أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة، فينفخوا في المسـلمين روح الاجتمـاع الشـوري في كل ما يهمـهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بـهم مستبد، ولا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهـم، ممن ينتسب إليهـم فينبذ ويطرح ويستـغنى عنه بالله وبالمؤمنين" [4] .

        فهذا بعض من تصور الإمام ابن باديس لأزمة المسلمين وسبيل الخروج منها، ولعلنا نعود إلى تفصيله في مناسبات أخرى.

        أمـا هـذه الوقفة فسنخصصها لبيان الإجابة التي قدمها الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله. [ ص: 38 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية